تقع الأردن في الشرق الأدنى وتحدها إسرائيل- فلسطين وسوريا والعراق والمملكة العربية السعودية وكانت جزءاً من أرض كنعان في العصور القديمة. سُمّيت البلاد على اسم نهر الأردن الذي يتدفق بين الأردن الحديث وإسرائيل والذي يعني اسمه "النزول" أو "التدفق إلى أسفل". تتمتع المنطقة بتاريخ طويل كمركز تجاري مهم لكل إمبراطورية كبرى من العالم القديم إلى العصر الحالي (الأكدية إلى الإمبراطورية العثمانية) ويتم ذكر العديد من المواقع في البلاد في جميع أنحاء الكتاب المقدس.
أسس الإسكندر الأكبر (حكم 336-323 قبل الميلاد) مُدناً في المنطقة (مثل جرش) ونحت الأنباط عاصمتهم البتراء هناك من منحدرات الحجر الرملي. في وقت مبكر من تاريخها، جذبت المنطقة وألهمت التجار والفنانين والفلاسفة والحرفيين، وحتماً، الغزاة الذين تركوا جميعاً بصماتهم على تاريخ البلاد الحديثة.
الأردن، المعروف رسمياً باسم المملكة الأردنية الهاشمية، أصبحت دولة مستقلة منذ عام 1946 ميلادية بعد آلاف السنين كدولة تابعة للإمبراطوريات الأجنبية والقوى الأوروبية وتطورت لتصبح واحدة من أكثر الدول استقراراً وحيلة في الشرق الأدنى. تعتبر عاصمتها عمّان واحدة من أكثر المدن ازدهاراً في العالم ووجهة شهيرة للسياح. تاريخ المنطقة واسع، يعود إلى أكثر من 8000 عام، ويشمل قصة صعود وسقوط الإمبراطوريات وتطور الدولة الحديثة.
تاريخها المُبكر
تعود الحفريات الأثرية إلى تاريخ السكن البشري في منطقة الأردن إلى العصر الحجري القديم (منذ حوالي مليوني سنة). تم العثور على أدوات مثل الفؤوس اليدوية الحجرية والكاشطات والمثاقب والسكاكين ورؤوس الرماح الحجرية، التي يرجع تاريخها إلى هذه الفترة الزمنية، في مواقع مختلفة في جميع أنحاء البلاد. كان الناس صيادين وجامعي ثمار عاشوا حياة بدوية يتنقلون من مكانٍ إلى آخر بحثاً عن طرائدهم. ومع مرور الوقت، بدأوا في بناء مستوطنات دائمة وإنشاء مجتمعات زراعية.
شهد العصر الحجري الحديث (حوالي 10000 قبل الميلاد) صعود المجتمعات المستقرة ونمو الزراعة. أصبحت هذه القرى الصغيرة في نهاية المطاف مراكز حضرية لها صناعتها الخاصة وبدأت التجارة مع الآخرين. تطورت المراكز الحضرية الكبيرة مثل مدينة أريحا، التي تزعُم أنها أقدم مدينة مأهولة باستمرار في العالم، مع تاريخ تأسيس تقريبي يبلغ 9000 قبل الميلاد.
وفقا للباحث ج. لانكستر هاردينغ:
[تقدم مدن مثل أريحا دليلاً على] ثقافة أعلى بكثير مما كنا نظن حتى الآن، لأن هنا لم تكن مجرد قرية من المنازل المبنية بشكل جيد مع أرضيات من الجص الجميل، ولكن كان هناك جدار حجري كبير في جميع أنحاء المستوطنة مع قناة أو خندق مائي جاف أمامها. وهذا يعني ضمنياً درجة عالية من التنظيم المجتمعي، وإخضاع المصالح الشخصية لمصالح السكان.(29)
المصالح المجتمعية واضحة أيضاً في الآثار القديمة التي أثيرت في هذا الوقت. طوال العصر الحجري الحديث، قام الناس ببناء المناطير الصخرية في جميع أنحاء الأرض (تشبه إلى حد كبير في الحجم والشكل والأساليب المستخدمة في أيرلندا). ويعتقد أن هذه المناطير هي نصب تذكارية للموتى أو ربما ممرات بين العوالم. غالباً ما توجد هذه المناطير في حقول من الحجارة الدائرية التي لا يزال معناها غير واضح ولكن من الواضح أن البنائين كانوا سيضطرون إلى العمل في مجموعات من أجل قضية مشتركة لإنشاء هذه المواقع.
كانت مواقع المناطير على الأرجح دينية بطبيعتها وتمت زيارتها للعبادة والكهانة والمهرجانات من قبل سكان المدن القريبة. كانت أكبر مستوطنة في العصر الحجري الحديث في الأردن هي عين غزال الواقعة في الشمال الغربي (بالقرب من العاصمة الحالية عمّان). كانت عين غزال، التي كانت مأهولة بالسكان حوالي 7000 قبل الميلاد، مجتمعاً زراعياً أُنشأ الحرفيون فيها بعضاً من أكثر التماثيل المجسمة إثارة للدهشة في التاريخ المبكر. التماثيل التي عُثر عليها في عين غزال هي من بين الأقدم، إن لم يكن الأقدم، في العالم اليوم.
كان لدى المجتمع أكثر من 3000 مواطن وشارك في التجارة وصناعة الفخار مما زاد من ثروة الناس بشكل فردي والمدينة بشكل جماعي. استمرت عين غزال كمستوطنة مزدهرة لمدة 2000 عام بين حوالي 7000 قبل الميلاد و 5000 قبل الميلاد عندما التخلي عنها، على الأرجح بسبب الإفراط في استخدام الأرض.
الهكسوس والمصريون
شهد العصر النحاسي والبرونزي (حوالي 4500-3000 و3000-2100 قبل الميلاد، على التوالي) المزيد من التطورات في الهندسة المعمارية والزراعة والسيراميك. برزت الثقافة الغسولينية- الغازولية، التي تتمحور حول موقع تليلات الغسول في غور الأردن، في العصر النحاسي وأظهرت مهارة جامحة في صهر النحاس والسيراميك والتعقيدات في التصميم المعماري.
نشأت مستوطنة خربة إسكندر في العصر البرونزي (تأسست حوالي عام 2350 قبل الميلاد) على ضفاف مجرى وادي الوالة، وكانت مجتمعاً تجارياً مُزدهراً حتى وصول الغزاة الذين دمروا البلدات والقرى والمدن في جميع أنحاء الأردن في حوالي عام 2100 قبل الميلاد. هوية هؤلاء المعتدين غير معروفة لكنهم كانوا على الأرجح جيوش الجوتيين الذين أطاحت غزواتهم بالإمبراطورية الأكدية التي أسسها سرجون العظيم (حكم 2334-2279 قبل الميلاد) بدءاً من حوالي 2193 قبل الميلاد. كانت منطقة الأردن، بالطبع، جزءاً من هذه الإمبراطورية. وقد اقترح بعض العلماء شعوب البحر على أنهم الغزاة ولكن تاريخ توغلاتهم في المنطقة كانت لاحقة بفارقٍ زمني كبير.
أيّاً كانوا، فقد تم طرد هؤلاء الغزاة من قبل مجموعة أخرى هاجرت إلى المنطقة (ربما في وقت مبكر من عام 2000 قبل الميلاد)، الهكسوس، الذين جلبوا ثقافة مختلفة تماماً إلى الأردن وأثبتوا أنفسهم كطبقة حاكمة. مع مرور الوقت، جمع الهكسوس الأردني ما يكفي من القوة لغزو مصر وسيطروا على كلا البلدين حتى طردهم المصريون في حوالي عام 1570 قبل الميلاد من قبل أحمس الأول (حوالي 1570-1544 قبل الميلاد). يجادل بعض العلماء بأن الهكسوس (كما أسموهم المصريون؛ الاسم الذي أطلقوه على أنفسهم غير معروف) كانوا من السكان الأصليين للأردن بينما يدعي آخرون أنهم كانوا غزاة أجانب. وأيّاً كانت الحالة، فقد غيروا الحياة بشكل دائم في الأردن من خلال إدخال الحصان والقوس المركب والعربة إلى النزاع المُسلح، وإدخال أساليب أفضل للري، وتطوير أنظمة دفاع أفضل للمدن المسورة.
كانت منطقة سوريا الحديثة والأردن ولبنان وإسرائيل (سورية الطبيعية- بلاد الشام) في تجارة مستمرة مع المناطق والحضارات الأخرى طوال هذه الفترات. تطورت الكتابة في بلاد ما بين النهرين حوالي 3500 قبل الميلاد كوسيلة للاتصال بين المسافات البعيدة في التجارة، ومع ذلك فإن هذه المناطق، التي كانت تعرف القراءة والكتابة من 3000 قبل الميلاد على الأقل، لم تعتمد نظاماً للكتابة حتى حوالي عام 2000 قبل الميلاد لأسباب غير واضحة. تم إنشاء نقوش مثل العلامات والرموز ولكن يبدو أنه لم يتم صياغة نص كامل. لم تتطور الكتابة في الأردن إلا بعد أن أطاح المصريون بالهكسوس في حوالي عام 1570 قبل الميلاد.
بمجرد طرد الهكسوس من مصر، لاحقهم المصريون عبر الأردن، وأنشأوا مواقع عسكرية نمت لتصبح مجتمعات مستقرة. في ظل الحكم اللاحق للملكة المصرية حتشبسوت (1479-1458 قبل الميلاد) وخليفتها تحتمس الثالث (1458-1425 قبل الميلاد)، ازدهرت التجارة. وضع تحتمس الثالث حُكاماً مصريين في جميع أنحاء منطقة كنعان الكبرى ليجلبوا بذلك الاستقرار والسلام والازدهار. ازدهرت المنطقة إلى درجة كبيرة لدرجة أنه يشار إليها على أنها أرض مجيدة "تتدفق بالحليب والعسل" بعد قرون في العديد من أسفار الكتاب المقدس.
الأردن في الكتاب المقدس والعصر الحديدي
مدينتا جرش وجدارا (جرش وأم قيس الحديثتان على التوالي) مذكورتان في سفر مرقس 5: 1-20 وسفر متّى 8: 28-34. كل من هذه المقاطع تروي قصة يسوع الذي أخرج الشياطين الشريرة من الناس المملوكين إلى قطيع من الخنازير. القصة في مرقس تُعتبر الأقدم، وتضع الحدث في جرش بينما تحتوي نسخة متّى على ذلك في جيدارا. يذكر مرقس كيف أن الرجل الذي كان مملوكا للشيطان، بعد المعجزة، ربط المعجزة بجميع سكان الديكابوليس. والديكابوليس هو مصطلح المدن العشر على الحافة الشرقية للإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت وكانت كل من جرش وغادارا من بينها.
تم ذكر منطقة الأردن الحديثة عدة مرات في العهد القديم للكتاب المقدس كجزء من الروايات التي تشكل أسفار التكوين والخروج والتثنية وسِفر العدد وسِفر يشوع- أو يوشع بن نون، وغيرها فيما يتعلق بأرض بني إسرائيل واستعبادهم في مصر وخلاصهم إلى أرض الميعاد التي يجب عليهم غزوها. ويُعتقد أن الأحداث ذات الصلة قد وقعت خلال الجزء الأخير من العصر البرونزي (حوالي 2000-1200 قبل الميلاد) على الرغم من وجود تناقضات بين الروايات التوراتية والسجل الأثري.
من بين التناقضات الأكثر شيوعاً التي لاحظها العلماء حقيقة أن منطقة الأردن المذكورة في أسفار الخروج والعدد ويشوع مأهولة بوضوح بينما يشير السجل الأثري إلى بلد غير مأهول إلى حد كبير. ويبدو أن المعارك التي قيل إن العبرانيين خاضوها في سفر العدد وفي يشوع لم تترك وراءها أي سجل أثري. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن مدينة أريحا، التي اشتهرت بسقوطها في يد يوشع بن نون (يشوع 6: 1-27)، تظهر أدلة على الدمار العنيف حوالي 1200-1150 قبل الميلاد خلال انهيار العصر البرونزي.
جبل نيبو في الأردن هو المكان الذي يقال إن موسى قد سمح له بإلقاء نظرة على أرض الميعاد قبل وفاته (تثنية 43: 1-4) وكان الأردن أرض المديانيين- قوم مدين حيث لجأ موسى بعد هروبه من مصر في سِفر خروج (خروج 2: 15) والمنطقة التي واجه فيها الأدغال المحترقة التي أعادته في مهمته لتحرير شعبه من العبودية (خروج 3: 1-17). ويقال إنه دفن على جبل نيبو، وهو في الأصل موقع مقدس للموآبيين وآلهتهم.
بدأت بداية العصر الحديدي (حوالي 1200-330 قبل الميلاد) في المنطقة من خلال غزو شعوب البحر، وهي ثقافة غامضة لا يزال العلماء يناقشون هويتها. ادعى البعض أنهم فلسطينيون في الكتاب المقدس بينما اقترح آخرون أنهم أتروريون أو مينويون أو ميسينيون أو جنسيات أخرى. لم يتم قبول أي ادعاء واحد يحدد هويتهم على نطاق واسع ولا من المحتمل أن يكون هناك ادعاء في المستقبل القريب لأن النقوش الموجودة المتاحة تنص فقط على أن هؤلاء الأشخاص جاءوا من البحر، وليس من أي بحر ولا حتى من أي اتجاه.
وصلت شعوب البحر إلى ساحل كنعان حوالي عام 1200 قبل الميلاد بمعرفة متقدمة بعلم المعادن وكانت أسلحتهم الحديدية أفضل بكثير من السيوف والرماح الحجرية والنحاسية لخصومهم. بينما كانت شعوب البحر تغزو من الجنوب، يحكي السجل التوراتي عن معارك كبيرة بين الإسرائيليين والموآبيين والمديانيين في سِفر القضاة، فضلاً عن غارات على المستوطنات الإسرائيلية من قبل العمونيين من شمال الأردن. نمت الممالك الأُردنية كأدوم في الجنوب، وموآب في الوسط، وعمّون في الشمال في القوّة خلال هذا الوقت.
يسجل نقش ميشع- مسلّة ميشع (المعروفة أيضا باسم حجر الموآبية، حوالي 840 قبل الميلاد) معركة دارت بين ميشع، ملك موآب، وثلاثة ملوك لإسرائيل. تتوافق الرواية الموجودة على اللوح مع سرد الحدث الوارد في "سِفر الملوك الثاني: الجزء الثالث" حيث يذهب يهورام من إسرائيل ويهوشافاط من يهوذا إلى الحرب لإخماد تمرد موآبي. تعد مسلّة ميشع من بين أشهر القطع الأثرية التي تدعم رواية الكتاب المقدس على الرغم من أن بعض العلماء شككوا في معناها وحتى صحتها.
إن الخلاف حول ما إذا كانت مسلّة ميشع تدعم السرد الكتابي هو أمر نموذجي للحجج حول التفسير ليس فقط للأشياء ولكن للنصوص القديمة. هؤلاء العلماء الذين يساوون بين شعوب البحر والفلسطينيين يفسرون أسفار صموئيل الأول والثاني، والتي تتميز بشكل كبير بالفلسطينيين، على أنها سرد لشعوب البحر. تحكي هذه الكتب قصة صعود الملك شاول (حوالي القرن 11 قبل الميلاد) على بني إسرائيل وهزيمة داود للفلسطينيين في ذبح بطلهم جالوت في معركة واحدة.
معظم ما يعرف عن شعوب البحر يأتي من السجلات المصرية التي تدعي أنها هزمت على يد رمسيس الثالث في عام 1178 قبل الميلاد بالقرب من مدينة كسوا المصرية، وبعد ذلك، تختفي من السجل التاريخي. إذا تم قبول هذا الادعاء، إلى جانب تواريخ شاول وداود التقليدية، فقد يكون الفلسطينيون هم شعوب البحر التي غزت مصر بعد معاركها مع شاول وداود. بيد أن هذا أبعد ما يكون عن اليقين، ولم يتم التوصل إلى توافق في الآراء بشأن هذا الموضوع.
ينقسم الاتفاق العلمي أيضاً حول ما إذا كانت شعوب البحر مسؤولة عن تدمير المدن في جميع أنحاء منطقة كنعان أو ما إذا كان هذا نتيجة للقائد يوشع بن نون وحملاته الغازية في المنطقة، مُدّعياً أنها أرض الميعاد لشعبه (سِفري العدد ويشوع). وفي كلتا الحالتين، أدى إدخال الأسلحة الحديدية إلى المنطقة إلى تغيير ديناميكيات المعركة، لصالح المسلحين بها، كما أثبتت الآلة العسكرية الآشورية عندما استولوا على البلاد. اعتبر الآشوريون لا يقهرون في المعركة. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى استخدام أسلحتهم المتفوقة.
الإمبراطوريات العظيمة والأنباط
استخدمت الإمبراطورية الآشورية، والإمبراطورية الآشورية الجديدة، الأسلحة الحديدية في الغزو وأصبحت أعظم وأوسع قوة سياسية في العالم في ذلك الوقت. في عهد الملك الآشوري تغلث فلاسر الأول (1115-1076 قبل الميلاد) تم الاستيلاء على سورية الطبيعية وأصبحت تحت السيطرة الآشورية وستظل جزءاً من الإمبراطورية حتى سقوطها في عام 612 قبل الميلاد.
ثم استولت الإمبراطورية البابلية على الأرض حتى استولى عليها كورش الكبير، مؤسس الإمبراطورية الأخمينية (549-330 قبل الميلاد)، والمعروفة أيضاً باسم الإمبراطورية الفارسية، والتي سقطت بعد ذلك في يد الإسكندر الأكبر في عام 331 قبل الميلاد وأصبحت جزءاً من إمبراطوريته الناشئة. قبل غزو الإسكندر، نشأت ثقافة فريدة من نوعها في الأردن والتي أصبحت عاصمتها واحدة من أكثر الصور المعروفة من العالم القديم ومعلماً سياحياً شهيراً في يومنا هذا: الأنباط ومدينتهم البتراء.
كان الأنباط من البدو الرحل من صحراء النقب الذين وصلوا إلى منطقة الأردن الحديثة واستقروا في وقت ما قبل القرن الرابع قبل الميلاد. ربما تم إنشاء مدينتهم البتراء، المنحوتة من منحدرات الحجر الرملي، في هذا الوقت ولكن ربما في وقت سابق. اكتسب الأنباط ثرواتهم في البداية من خلال التجارة على طرق البخور التي تسافر بين مملكة سبأ في جنوب شبه الجزيرة العربية وميناء غزة على البحر الأبيض المتوسط. وبحلول الوقت الذي أنشأوا فيه البتراء، كانوا يسيطرون أيضاً على مدن أخرى على طول طرق البخور وكانوا قادرين على فرض ضرائب على القوافل، وتوفير الحماية، والسيطرة على تجارة التوابل المربحة.
من شبه المؤكد أن الواجهة الشهيرة للبتراء، والمعروفة اليوم باسم الخزانة، كانت في الأصل قبراً أو ضريحاً، وعلى عكس الخيال الشعبي، لا تؤدي إلى أي متاهة معقدة من الممرات ولكن فقط غرفة قصيرة وضيقة إلى حد ما. تشهد المساكن الأكثر اتساعاً التي تشكل بقية مدينة الجرف على ثروة الأنباط كتجار لديهم ما يكفي من الدخل المتاح والقوى العاملة ليكونوا قادرين على تحمل مثل هذا البناء المعقد وفي الوقت المناسب.
اسم "البتراء" يعني "الصخرة" في اليونانية. كانت المدينة تسمى في الأصل Raqmu- رقمو (ربما بعد ملك نبطي مبكر) وهي مذكورة في الكتاب المقدس وفي كتاب يوسيفوس فلافيوس (37-100 م) وديودوروس سيكولوس (القرن الأول قبل الميلاد). في ذروة المملكة النبطية، تمتعت منطقة الأردن بازدهار كبير وليس فقط في مدينة البتراء وحولها. كان الأنباط بالتأكيد الأكثر ثراء، ولكن الناس من جنسيات أخرى شاركوا في حظهم السعيد أيضا.
في حوالي عام 200 قبل الميلاد، قام حاكم عمّون، هيركانوس، ببناء قصره القلاعي المتقن قصر العبد ("قلعة الخادم") الذي كان سيتطلب قدراً كبيراً من الدخل المتاح. يصف يوسيفوس فلافيوس القصر (الذي فهمه على أنه حصن) بعبارات متوهجة بأنه "مبني بالكامل من الحجر الأبيض" على نطاق واسع، بما في ذلك بركة عاكسة كبيرة، وكيف تم نحت جدرانه "ذات حجم هائل" بالإضافة إلى قاعات الولائم وأماكن المعيشة المزودة بالمياه الجارية (ميريل، 109). لا تزال أطلال هذا الهيكل موجودة اليوم بالقرب من عراق الأمير- في وادي السير، على الرغم من أنها في حالة تضاءلت إلى حد كبير من زمن يوسيفوس فلافيوس، ولكنها لا تزال تشهد على ثروة ورؤية الرجل الذي كلف ببناءها.
كان أول ملك موثق تاريخياً للنبطيين هو حارثة الأول (حوالي 168 قبل الميلاد)، وهكذا، على الرغم من أن الأنباط قد أسسوا أنفسهم في المنطقة قبل قرون، إلا أن مملكة النبطية يعود تاريخها من 168 قبل الميلاد إلى 106 ميلادية عندما ضمتها روما. كان لدى الأنباط ثقافة متطورة للغاية ازدهر فيها الفن والهندسة المعمارية والحساسيات الدينية والتجارة. وتتمتع المرأة بحقوق متساوية تقريباً مع الرجل، ويمكن أن تعمل كرجل دين، وحتى أن تحكم كملوك مستقلين. كانت أهم آلهة نبطية من الإناث ومن المرجح أن تكون النساء قد خدمن ككاهنات كبيرات.
لحل مشكلة إمدادات المياه في المنطقة القاحلة، قام الأنباط بهندسة سلسلة من الآبار والقنوات المائية والسدود التي كانت كفاءتها لا مثيل لها في عصرهم. مع إمكانية الوصول إلى المياه، والاستقرار في بعض المناطق التي يصعب الوصول إليها في المنطقة، تمكن الأنباط من صد المعتدين الذين جذبتهم ثرواتهم. ومع ذلك، لم يتمكنوا من الصمود طويلاً ضد القوة المتفوقة لروما، التي استولت بثبات على أراضيهم واستوعبت طرقهم التجارية حتى استولوا أخيراً على المملكة بأكملها وأعادوا تسمية المنطقة إلى العربية- البترائية في عام 106 ميلادية تحت حكم الإمبراطور تراجان (98-117 ميلادية).
روما والإسلام والدولة الحديثة
أعاد الرومان تنشيط جزء كبير من المنطقة (على الرغم من إهمال المدن النبطية مثل البتراء والحِجر- مدائن صالح)، مما أدى إلى إنشاء مركز تجاري قوي في جرش ومركز آخر يسمى فيلادلفيا في موقع عمّون، عمّان الآن، عاصمة الأردن الحديثة. ازدهرت مدينة جدارا في عهد الرومان. كانت جيدارا مسقط رأس الشاعر والمحرر الروماني ميلياغروس (القرن الأول الميلادي) وكانت قد ألهمت في وقت سابق عمل الفيلسوف والشاعر الأبيقوري فيلوديموس (حوالي 110-35 قبل الميلاد). من المؤكد أن الرومان استفادوا من موارد المنطقة، وكذلك من المحليين الذين ازحِموا في جيوشهم كمجندين وفي فرق دعم المقاتلين، لكنهم طوروا من المنطقة أيضاً حيث قاموا ببناء الطرق والمعابد والقنوات المائية التي حولت مساحات واسعة من المنطقة إلى مناظر طبيعية خصبة وشجعت التجارة المزدهرة. أصبحت جرش واحدة من أغنى وأفخم مدن المقاطعات في الإمبراطورية الرومانية في هذا الوقت.
ومع ذلك، بدأت روما في التراجع بشكل مطرد طوال القرن الثالث الميلادي وواجهت تحديات خطيرة مع بداية القرن الرابع الميلادي. وبينما كانت روما تكافح مع الصعوبات الداخلية والغزوات، عانت المنطقة التي ستصبح الأردن جنباً إلى جنب مع جميع المحافظات الأخرى. اكتسب التنوخيون شبه الرحل السلطة في المنطقة وحولها في القرن الثالث الميلادي وقادت زعيمتهم الأكثر شهرة، الملكة ماويا (حوالي 375-425 م) ثورة ضد روما، على الأرجح بسبب إصرار الإمبراطورية على تجنيد التنوخيين كفرق داعمة للجيش.
وبما أن التانوخيين كانوا في الأصل جزءاً من الكونفدرالية القبلية النبطية، يعتقد أنها كانت ستسيطر على المناطق التي كانت تضم سابقاً المملكة النبطة. سواء كان الأمر كذلك، فقد كانت قوية بما يكفي لتحدي روما، والتفاوض على السلام بشروطها الخاصة، وإرسال وحدات من سلاح الفرسان لاحقاً للمساعدة في الدفاع عن القسطنطينية بعد هزيمة روما في معركة أدريانوبل في عام 378 ميلادية.
عندما سقطت روما في الغرب (476 ميلادية)، استمر الجزء الشرقي كإمبراطورية بيزنطية تحكم من القسطنطينية. في القرن السابع الميلادي اجتاح الغزو العربي المنطقة، وتم تحويل الناس إلى الإسلام، والتي جلبت بعد ذلك هؤلاء الناس في صراع مع البيزنطيين. أصبحت منطقة الأردن الحديث جزءاً من الإمبراطورية الأموية، أول سلالة مسلمة، حكمت من 661-750 ميلادية. في ظل الإمبراطورية الأموية، ازدهر الأردن ولكن تم إهماله من قبل البيت الحاكم التالي، العباسيين (750-1258 ميلادية) عندما سحبوا دعمهم من المنطقة، ونقلوا العاصمة من دمشق، شمال الأردن مباشرة، إلى الكوفة ثم بغداد البعيدة جداً.
استولت الخلافة الفاطمية (909-1171 ميلادية، التي استوعبها العباسيون) على الأردن أثناء توسعهم وبدأت في تجديد المعابد والمباني والطرق كما فعلت الإمبراطورية العثمانية (1299-1923 ميلادية) التي جاءت بعد العباسيين. هزمت الجيوش العثمانية قوات الإمبراطورية البيزنطية في عام 1453 ميلادية، منهية النفوذ الغربي في المنطقة.
خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918 ميلادية)، وقف العثمانيون إلى جانب ألمانيا والقوى المركزية. الثورة العربية عام 1916 م، التي بدأت في الأردن، أضعفت الإمبراطورية العثمانية بشكل كبير لأنها ناضلت ضد دول الحلفاء، وعندما هزمت، تم حل الإمبراطورية في عام 1923 ميلادية. ثم أصبح الأردن مُنتدباً من الإمبراطورية البريطانية حتى حصل على استقلاله في عام 1946 ميلادية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. تعرف المنطقة اليوم باسم المملكة الأردنية الهاشمية، وهي دولة تتمتع بالحكم الذاتي ولها مستقبل مشرق- وماض طويل ولامع.