الميثرائية (المثراسية) أو الأسرار الميثرائية هي طائفة باطنية انتشرت في العالم الروماني، عبد أتباعها الإله الهندو-إيراني «ميثرا» باعتباره إله الصداقة والعقود والنظام، وقد ظهرت هذه الديانة أواخر القرن الأول الميلادي فانتشرت بسرعة مدهشة من شبه الجزيرة الإيطالية والمناطق الحدودية لتجتاح الإمبراطورية الرومانية برمتها.
كانت هذه الطائفة -مثل طوائف كثيرة أخرى- سِرّية، عَبد أتباعها ميثرا (مثرا) في معابد اتصلت -عادةً- بالكهوف مخفية عن الجمهور لخلق شعور الانتماء إلى جماعة خاصة؛ كأنها جماعة من الأصدقاء المقربين الذين لا يُشركون غيرهم في أسرارهم. وقد تسامحت السلطات -وخصوصًا الأباطرة الرومان- مع سرية هذه الطائفة لأنها كانت مؤيدة للسلطة الإمبراطورية. عُثر على أكثر من 200 معبد ميثرائي انتشرت من سوريا حتى بريطانيا لكن معظم ما عُثر عليه تركّز في إيطاليا وعلى نهري الراين والدانوب، وبعد أزمة القرن الثالث للميلاد وتأسيس المسيحية تضاءلت أهمية الأسرار الميثرائية إذ دمّر المسيحيون معابدها أو أغلقوها تمامًا بالحجارة، ورغم ذلك استمر بعضها يخدم طائفته حتى بدايات القرن الخامس الميلادي.
كان أهم عنصر أسطوري في ديانة الأسرار الميثرائية هو قتل ميثرا للثور؛ أو ما يُعرف باسم «توروكتوني» بمعنى «قتل الثور»، وقد آمن الميثرائيون بأن حياةً جديدةً تنبجس من موت الثور؛ وهو حيوان يُعتبر عادةً رمزًا للقوة والخصوبة، فكانت الولادة الجديدة (الانبعاث) فكرة رئيسية في أساطير الأسرار الميثرائية. لقد رأوا أن التضحية بالثور تؤسس لنظام كوني جديد، وربطوها بالقمر -أيضًا- الذي ارتبط -بدوره- بالخصوبة.
نقش ميثرا البارز
ما يميز الأسرار الميثرائية توضيحاتها المرئية (البصَرية)، وقد جُسِّدت التضحية بالثور في نقش حجري بارز يتموضع في مركز كل معبد للطائفة تقريبًا، وفي هذا النقش يظهر ميثرا -عادةً- طارحًا الثور أرضًا -بعد عراك- قاتلًا إياه، وباعتباره إلهًا فارسيًا فقد ارتدى ميثرا الزي الفارسي النموذجي من وجهة نظر الرومان؛ أي القلنسوة الفريجية والسراويل التي لم يعتَد الرومان ارتداءها. وقد عُثِر على نحو 650 من هذه النقوش وجميعها متشابهة بشكل مدهش.
في مثال نموذجي، كالتمثال المحتفى به في المتحف الروماني-الجرماني بمدينة كولونيا (ألمانيا)، ينظر ميثرا نحو القمر بعيدًا عن الثور المحتضر. بالإضافة إلى ذلك، كان لميثرا بعض المعاونين الذين يساعدونه في نيل خصوبة الثور؛ هم كلب وأفعى يشربان من دم الثور، وعقرب يلدغ صفن الثور، وغراب -أيضًا- يجلس على ذيل الثور الذي ينتهي عادةً بسنابل القمح، وربما كان الغراب وسيطًا بين ميثرا وإله الشمس «سول إنفكتوس» الذي سوف يتناول معه ميثرا لحم الضحية.
وضِع نقش التضحية بالثور عادةً في نهاية المعبد الذي بُني أساسًا شبيهًا بغرفة طعام رومانية ممتدة؛ حيث أحيط الرواق بمصطبتين واسعتين مرتفعتين. ورغم أهمية النقش إلا أن المتعبدين نادرًا ما مارسوا طقس التضحية بالثور بأنفسهم، لكنهم حاكوا مشاركة ميثرا إله الشمس سول في الأكل من اللحم؛ وتشهد على ذلك بقايا الصحون وعظام الحيوانات الأثرية التي وجِدت في هذه المعابد. أكل المتعبدون لحم الخنزير والدجاج عالي الجودة وشربوا كميات كبيرة من الخمر في أعياد دينية بهيجة خلقت رابطة بين المتعبدين أنفسهم وربطت بينهم وبين ميثرا.
الطقوس الإدخالية: الدرجات السبع
لم تكن الأسرار الميثرائية ديانة مرح وألعاب وحسب، بل كانت هناك قواعد صارمة -أيضًا- مثل تلك التي تخص تنظيم الأعياد من ناحية النظافة. وأكثر من ذلك، كانت هناك سبع درجات (هي درجات الإدخال) ينتظم فيها الميثرائيون؛ تبدأ بدرجة «الغراب» وتنتهي بدرجة «الأب»، وتتضمن درجات «العريس» و«الجندي» و«الأسد» و«الفارسي» و«ساعي الشمس»، ولكل درجة منها زيها الخاص ومهمتها الخاصة؛ فكان واجب الغراب حمل الطعام بينما كان واجب الأسود تقديم الأضاحي إلى الأب. إضافة إلى ذلك، كان على المدخَلين (المبتدئين) المشاركة في اختبارات الشجاعة. تُظهر لوحات معبد ميثرا في سانتا ماريا كابوا فيتيري (إيطاليا) مشاهد مختلفة من هذه الشعيرة؛ فيقود مساعدٌ مبتدِئًا عاريًا معصوبَ العينين إلى المراسم، ولاحقًا يجب على المبتدىء الجثو أمام «الأب» الذي يمسك مشعلًا أو سيفًا أمام وجهه، وأخيرًا يُمدَّدُ المبتدىء على الأرض كأنه قد مات؛ وكانت هذه -على الأرجح- شعيرة «انتحار» كأن المبتدىء «يُقتل» فيها -بسيف مسرحي غير مؤذٍ- قبل أن يولَد من جديد.
من العناصر المهمة الأخرى في الميثرائية نكران الذات ومحاسبة النفس أخلاقيًا، فينقلُ الكاتب المسيحي ترتليان نحو 200 م -مثلًا- أن تاجًا كان يوضع على رأس المبتدىء، وكان على الأخير أن يرفضه قائلًا «ميثرا هو تاجي (الحقيقي)» (ترتليان، دي كورونا ميليتيس، 15)، وكان يُعتقد أن هذه شعيرة «انبعاث» أو «تناسخ» -أيضًا- تؤشر بداية حياةٍ جديدةٍ للمبتدىء. كان أول أتباع ميثرا -حسبما نعرف- هم جنود وضباط الجيش الروماني، لكن مع انتشار الديانة الميثرائية بين الناس، أصبح معظم المؤمنين بها من عبيد المدن العتقاء (المحررين) الناجحين، ولم يُسمح بانضمام النساء على أي حال. والسؤال هو: لِم يتكبد الجندي الروماني -أو أيًا كان- هذا العناء ليصبح عضوًا في أسرار ميثرا؟
أولًا، لأن الطائفة دعمت الإمبراطور -كما ذُكر آنفًا- على عكس طوائف أخرى كالباخوسية. وثانيًا لأن الطائفة أُسِّست على المصالح المشتركة والصداقة والتآلف، ولم تتسع المعابد إلا لمجموعات صغيرة؛ لذلك فإن من المفهوم أن تجذب هذه المزايا العسكريين، فهي تضمن نوعًا من الاستقرار يجذب أصحاب هذه المهنة الخطيرة.
سجال حول أصول الطائفة
هناك ثلاث وجهات نظر حول كيفية ظهور الطائفة الميثرائية في العالم الروماني الهلنستي، أولها اعتقاد مؤرخي القرنين الثاني والثالث للميلاد -من الإغريق والرومان- في أن أصل الطائفة هو بلاد فارس، أو أنها ظهرت مع الفُرس، وقد جاراهم الباحثون الحديثون الأوائل في هذا الاعتقاد، لكن المخلفات الأثرية لا تدعم وجهة النظر هذه؛ إذ أن معظم المعابد الميثرائية وجدت في إيطاليا ومقاطعات الدانوب، وليس في بلاد فارس، ناهيك عما أظهرته النقوش التي صورت ميثرا مرتديًا ما ظنه الرومان أنه ملابس شرقية نموذجية، وهي ملابس تفتقد إلى الأصالة، ونستطيع مقارنة ذلك مع الصور النمطية الحديثة عن ارتداء جميع الألمان البناطيل الجلدية وارتداء كل الأمريكيين قبعات رعاة البقر.
وجهة النظر الثانية في أصل الميثرائية الرومانية هي أنها امتزاج للميثرائية الأصلية الفارسية الشرقية مع الثقافة الرومانية الهيلينية نتج عنه طائفة جديدة. ووجهة النظر هذه مغرية لأول وهلة، لكن تبقى المشكلة في أن المتوقع من هذا الامتزاج أن يحصل في منطقة حدودية بين العالمين الفارسي والروماني-الهيليني، لكن الواقع هو غياب الأدلة على عبادة ميثرا في تلك المنطقة.
لم تظهر الفرضية الثالثة -وهي فرضية راديكالية- إلا مؤخرًا، ومفادها أن أصل الأسرار الميثرائية يقع في إيطاليا لا في بلاد فارس، وقد أوجدها شخص مجهول قد يوصف بأنه «عبقري»، استعار أمورًا قليلة من العالم الفارسي تكفي لإضفاء لمسة من الغرابة الساحرة على الطائفة التي أسسها. والمشكلة هنا هي غياب ذِكر هذا الشخص باعتباره مؤسس الطائفة حتى مِن قِبل أتباعها، إضافة إلى غياب أي دليل يسند «نظرية الاختراع» هذه إلا كثرة عدد المعابد في إيطاليا وغيابها في المناطق الأخرى (قارن: ويتشل 2013، 209).
خلاصة الأمر هي أننا نعجز عن تقديم شرح وافٍ حول أصل الميثرائية لقلة المصادر التي بين أيدينا وغياب الإجابات عن أسئلة كثيرة مطروحة؛ فإلى جانب القطع الفنية (البصَرية) العديدة التي ترجع إلى الأسرار الميثرائية لم يتبق من المصادر المكتوبة إلا قليلًا، وما تبقى ليس سوى أوصاف قدمها كتّاب مسيحيون قد لا يكونون سعيدين بمنافسة الميثرائية لدينهم؛ ففي عين الأب الكنسي إيرونيموس -على سبيل المثال- كانت المعابد الميثرائية أماكن يُفضَّلُ تدميرها. لم تتبق مصادر مكتوبة بيد أتباع الأسرار الميثرائية، وسبب ذلك مفهوم؛ إذ كانت طائفة سرية أصلًا. وربما يجدر بنا إيقاف البحث عن «جذر» مفرد للميثرائية والبدء في النظر إليها بعين الديناميكية (التحرك والتغير)؛ ممعنين النظر -مجازًا- في فروعها المختلفة المنتشرة في أماكن وأوقات (أو مواسم) مختلفة شهدت وجود هذه الطائفة المذهلة (قارن: ويتشل 2013، 209).