يُعرف عصر الدولة المصرية القديمة (حوالي 2613-2181 ق.م) أيضًا باسم "عصر الأهرام" أو "عصر بناة الأهرام" لعدة أسباب منها: وجود الأسرة الرابعة العظيمة به، والملك “سنفرو” الذي أتقن فن بناء الأهرام، وأهرام الجيزة التي شُيدت في عهد الملوك (خوفو وخفرع ومنكاورع).
إن السجلات التاريخية لهذه الحِقْبَة، المتمثلة في الأسرات من (الرابعة إلى السادسة)، نادرة، ويري المؤرخون أن تاريخ هذه الحِقْبَة "مكتوب على الحجر" حرفيًا ومعماري الطابع إلى حد بعيد، حيث تمكن الباحثون من بناء تاريخ الدولة القديمة عن طريق الآثار والنقوش. تنقل الأهرام نفسها معلومات ضئيلة عن بنائها، ولكن المعابد الجنائزية التي بنيت بالقرب منها والنقوش التي رافقتها توفر أسماء الملوك وغيرها من المعلومات المهمة.
تسجل النقوش الحجرية أيضًا، والتي عُثر عليها في أماكن أخرى من ذلك العصر أحداثًا مختلفة وتواريخ وقوعها، وأخيرًا، توفر مقبرة "أوناس" آخر ملوك الأسرة الخامسة، أول نصوص أهرام (لوحات ونقوش متقنة داخل المقبرة) تلقي الضوء على المعتقدات الدينية في ذلك العصر.
تعد الأهرام أكثر ما اشتهرت به الدولة القديمة في المقام الأول. يكتب المؤرخ مارك فان دي ميروب كيف أن الدولة القديمة "ربما لا مثيل لها في تاريخ العالم من حيث حجم البناء الذي قامت به" (52). تطلبت الأهرام في الجيزة، وفي أماكن أخرى، خلال هذا العصر كفاءة بيروقراطية غير مسبوقة لتنظيم القُوَى العاملة التي بنتها، ولم يكن من الممكن أن تعمل هذه البيروقراطية إلا في ظل حكومة مركزية قوية. يتابع فان دي ميروب:
"أجبر معظم الملوك الذين بلغ عددهم حوالي 20 ملكًا آلاف العمال على استخراج كميات هائلة من الحجارة ونقلها ووضعها وتزيينها من أجل بناء النصب التذكارية الملكية، وسخروا موارد هائلة من طول البلاد وعرضها لهذا الغرض، وملأوا امتدادًا بطول 70 كيلومترًا من حافَة الصحراء على طول الضفة الغربية لنهر النيل بالقرب من القاهرة الحديثة بآثار ضخمة لا تزل تثير الرهبة حتى اليوم رغم عاديات الزمن. (52)"
كان عصر الأسرة الرابعة من الدولة القديمة حِقْبَة تقدم وحكومة مركزية قوية قادرة على فرض نوع من الاحترام اللازم لمشروعات البناء هذه، ولكن خلال الأسرتين الخامسة والسادسة، بدأت سلطة الكهنة في الازدياد، وذلك في المقام الأول عن طريق سيطرتهم على الممارسات الجنائزية ذاتها التي أدت إلى ظهور الأهرام العظيمة، مما أدى إلى تمكين حكام الأقاليم من أقاليمهم ومعاناة الملوك. بدأت الدولة القديمة في الانهيار مع تزايد عدد حكام الأقاليم الذين تولوا المزيد والمزيد من السلطة في مناطقهم، وأصبح يُنظر إلى الحكومة المركزية في منف على نحو متزايد أنها غير ذات صلة.
لم تعد هناك حكومة مركزية ذات شأن، في نهاية الأسرة السادسة، ودخلت مصر عصر من الاضطرابات الاجتماعية والإصلاحات المعروف باسم عصر الاضمحلال الأول (2181-2040 ق.م) الذي حكم مصر خلاله حكام أقاليم على المستوى الإقليمي وضعوا قوانينهم الخاصة وطبّقوها.
لم يكن صعود حكام الأقاليم هؤلاء وسلطة الكهنة، مع ذلك، هما السببان الوحيدان لانهيار الدولة القديمة، حيث إن الجفاف الشديد في نهاية الأسرة السادسة جلب معه المجاعة التي لم تستطع الحكومة فعل شيء لتخفيف آثارها. أشار العلماء أيضًا إلى فترة حكم الملك "بيبي الثاني" من الأسرة السادسة الطويلة بشكل استثنائي بصفتها عامل مساهم في ذلك لأنه عاش أكثر من خلفائه ولم يترك وريثًا للعرش.
لم يعد العديد من العلماء اليوم ينظرون إلى نهاية الدولة القديمة على أنها "انهيار" بقدر ما هي انتقال إلى النموذج الجديد لعصر الاضمحلال الأول، عندما حكم حكام الأقاليم مقاطعاتهم مباشرًة وأصبح نوع الثروة الذي كان متاحًا في السابق للنبلاء فقط أكثر انتشارًا، ومع ذلك، فإن التسمية القديمة للانهيار السياسي والثقافي في نهاية الأسرة السادسة لا تزل قابلة للتطبيق، حيث إن فقدان الحكومة المركزية للسلطة والثروة أدى مباشرًة إلى الحكم الإقليمي لحكام الأقاليم.
الأسرة الثالثة والدولة القديمة
صاغ علماء الآثار اسم "الدولة القديمة" في القرن التاسع عشر في محاولة لتحديد تاريخ مصر الطويل، لم يكن المصريون أنفسهم يشيرون إلى هذا العصر بهذا الاسم، ولم يكونوا ليروا أي فرق بين هذا العصر والذي سبقته أو الذي تلاه. أدرج العلماء تقليديًا الأسرة الثالثة في مصر (حوالي 2670-2613 ق.م) في عصر الدولة القديمة بسبب هرم الملك زوسر في سقارة، وهو أول هرم بُني في مصر، ويبدو أن ذلك يربط تلك الأسرة بجهود البناء في الأسرة الرابعة، ولأن آخر ملوك الأسرة الثالثة كان على صلة بأول ملوك الأسرة الرابعة، ولأن زوسر وخلفاءه حكموا من منف (الجدار الأبيض) التي ظلت العاصمة خلال الدولة القديمة. إلا أن الدراسات الحديثة ترفض هذا الرأي لأن بناء هرم زوسر يتماشى مع العصر العتيق (حوالي 3150-2613 ق.م) أكثر من الدولة القديمة وكذلك الممارسات والاحتفالات الثقافية.
أحدث مهندس زوسر المعماري "إمحوتب" (حوالي 2667-2600 ق.م) ثورة في مجال البناء في مصر عن طريق بناء مقبرة الملك في سقارة من الحجر. كانت المقابر وغيرها من المباني قبل ابتكار إيمحوتب، مبنية من الطوب اللبن، كما كانت المقابر المبكرة في مصر مصاطب من الطوب اللبن، لكن إمحوتب أراد نصبًا تذكاريًا دائمًا لملكه ولذلك أنشأ مجمعًا يتوسطه هرم حجري ومعابد محيطة به؛ وبذلك ابتكر النموذج الذي ستتبعه كل الأسر التي تلته بدرجات متفاوتة.
أصبحت الأقاليم المستقلة في البلاد في عهد الأسرة الثالثة تُعرف باسم "نوم" “νομός” (أقاليم) تخضع مباشرًة للحكومة المركزية في منف. هذه التطورات في الهندسة المعمارية والسياسة وأيضًا في الممارسات الدينية - كلها خروج عن الماضي – أظهرت جليًا لعلماء المصريات أن الأسرة الثالثة كانت بداية عصر جديد في تاريخ مصر ويجب إدراجها في الدولة القديمة بدلًا من العصر العتيق.
يرى العلماء اليوم، رغما عن ذلك، أن الأسرة الثالثة هي مرحلة انتقالية أكثر ارتباطًا بالعصر السابق أكثر من اللاحق، فعلى الرغم من أن هرم زوسر الحجري كان إبداعًا جديدًا تمامًا، إلا أنه لا يزل يستخدم أساليب العصر العتيق، فهرم سقارة هو في الواقع كومة من المصاطب وليس هرمًا حقيقيًا، وفيما يتعلق بالإصلاحات السياسية وتخطيط الأقاليم، فإن الحكومة المركزية للأسرة الثالثة لم يكن لديها ما كان للأسرة الرابعة من نفوذ أو موارد، ولهذه الأسباب وغيرها، يُعتقد الآن أن الدولة القديمة بدأت مع الأسرة الرابعة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الادعاء ليس مقبولاً على الإطلاق بين العلماء.
أول هرم حقيقي
كان يُعتقد منذ مدة طويلة أن آخر ملوك الأسرة الثالثة، "حوني" (حوالي 2630-2613 ق.م)، هو الذي بدأ مشروعات البناء الضخمة في الدولة القديمة بتشيده هرم ميدوم، ولكن الفضل في هرم ميدوم يعود إلى أول ملوك الأسرة الرابعة، "سنفرو" (حوالي 2613-2589 ق.م) الذي ربما كان ابن "حوني" من إحدى ملكاته الصغيرات. كتبت عالمة المصريات باربرا واترسون: "بدأ سنفرو العصر الذهبي للدولة القديمة، وكانت أبرز إنجازاته الهرمين اللذين بُنيَا له في دهشور" (50-51). بدأ "سنفرو" عمله بهرم ميدوم الذي يُشار إليه الآن باسم "الهرم المنهار" أو، محليًا، باسم "الهرم الكاذب" بسبب شكله: فهو يشبه البرج أكثر من كونه هرمًا ويوجد حول غلافه الخارجي يتكون من كومة ضخمة من الرمال.
هرم ميدوم هو أول هرم حقيقي شُيِّدَ في مصر ولكنه لم يستمر، ويرجع ذلك إلى إجراء تعديلات على التصميم الأصلي لهرم "إيمحوتب" مما أدى إلى استناد الغلاف الخارجي على أساس رملي بدلاً من الصخور، مما تسبب في انهياره. ينقسم العلماء حول ما إذا كان الانهيار حدث أثناء البناء أو على مدي مدة زمنية أطول. يستشهد عالم المصريات ميروسلاف فيرنر بعمل عالم الآثار بورشارت في الادعاء بأن الهرم بُني على مراحل، حيث كان الأساس الخارجي يستند على الرمال بشكل متزايد بينما الأساس الداخلي مبني بشكل آمن على الصخور.
عندما وصل العمال إلى المرحلة الثالثة من عملية البناء، وهي مرحلة الغلاف الخارجي، كان الهيكل يفتقر إلى التماسك لأنه لم يكن له أرضية ثابتة "وكانت النتيجة أنه خلال المرحلة الأخيرة من البناء، حدث انزلاق هائل دفن العمال تحت الأنقاض" (162). يختلف علماء آخرين مع هذا الرأي ويزعمون أن الغلاف الخارجي استمر إلى عصر الدولة الحديثة (حوالي 1570 - حوالي 1069 ق.م). يزعم آخرون، مثل المؤرخ مارك فان دي ميروب، أنه من المستحيل معرفة متى انهار الغلاف الخارجي.
عُثِرَ على معابد غير مكتملة وهياكل أخرى في ميدوم مما يشير إلى أن مجمع هرمي لم يكتمل أبدًا، مما يرجح انهيار الهرم مبكرًا، على الأرجح بينما كان لا يزال تحت الإنشاء، ومع ذلك، تعلم "“سنفرو”" من خطئه، وانتقل إلى الهرمين التاليين في دهشور.
الملك سنفرو وأهراماته
يُعرف هرما "سنفرو" في دهشور باسم الهرم المائل والهرم الأحمر (أو الهرم الشمالي). سُمي الهرم المائل بهذا الاسم لأنه يرتفع بزاوية 55 درجة ثم يتحول إلى 43 درجة من الأحجار الأصغر حجماً مما يعطيه مظهر الانحناء نحو الأعلى. أكمل العمال الأساسات والجوانب قبل أن يدركوا أن زاوية 55 درجة شديدة الانحدار وعدّلوا خطتهم لإنهاء المشروع بأفضل ما يمكنهم، ويبدو أن "سنفرو" فهم المشكلة وانتقل إلى بناء هرمه الثالث.
كان "سنفرو" ملكًا محبوبًا جدًا، وكان يحظى باحترام كبير من شعبه، وفقًا للنقوش المكتوبة على حجر باليرمو. كتبت باربرا واترسون معلقةً على نقوش حجر باليرمو:
"قاد بعثات عسكرية إلى سيناء لحماية مصالح مصر في مناجم الفيروز، وإلى شمال النوبة وليبيا، وعاد من النوبة ب 7,000 أسير و200,000 رأس من الماشية، ومن ليبيا ب 11,000 أسير و13,100 رأس من الماشية. ومن المرجح أن الأسرى استخدموا لزيادة قوة العمل في المحاجر. اكتسب "سنفرو" سمعة طيبة وسخية، عند الأجيال المتعاقبة، فوفقًا لقصة مروية في بردية ويستكار، كان "سنفرو" يقبل أن يخاطب أحد رعاياه بـ "أخي". (51)
يبدو أن "سنفرو" كان حاكمًا يسهل الوصول إليه ولم يثنيه الفشل أو خيبة الأمل، فعندما لم يلبِّ الهرم المائل توقعاته، بدأ ببساطة في محاولة ثالثة. بُني الهرم الأحمر (سُمي كذلك بسبب استخدام الحجر الجيري المائل إلى الحمرة في البناء) على قاعدة صلبة لتحقيق مزيد من الثبات، حيث ارتفع بزاوية 43 درجة. كان الهرم الأحمر الذي يبلغ ارتفاعه 344 قدمًا (105 أمتار) أول هرم حقيقي ناجح بُني في مصر، وكان في الأصل مغطى بالحجر الجيري الأبيض، مثله مثل الأهرامات الأخرى اللاحقة، والتي سقطت على مر القرون واستخدمها السكان المحليون في مشروعات بناء أخرى.
أنشأ الملك "سنفرو"، عن طريق حملاته العسكرية واستخدامه الحكيم للموارد، حكومة مركزية قوية في منف، التي أنتجت بدروها نوعًا من الاستقرار اللازم لمشروعات البناء الضخمة. شيد "سنفرو"، على غرار مجمع زوسر في سقارة، معابد جنائزية ومباني أخرى حول أهراماته مع تزويدها بالكهنة الذين تولوا إدارة العمليات اليومية بمجرد الانتهاء من الهرم الأحمر. كل هذا يدل على وجود مجتمع مستقر في عهده الذي تركه لابنه خوفو عند وفاته.
خوفو والهرم الأكبر
عرف الكتّاب الإغريق القدماء "خوفو" (2589-2566 ق.م) باسم "خيوبس"، واشتهر بهرمه الأكبر في الجيزة، وصوره في كتاباتهم على أنه طاغية يضطهد الناس ويجبرهم على العمل لديه مرغمين. يُحتمل أن هذا الانطباع نشأ من القصص التي تشكل الوثيقة المعروفة باسم بردية وستكار، وهي مجموعة من أربع قصص كُتبت عن ملوك الأسرة الرابعة واكتشفها (أو حصل عليها من تاجر آثار) هنري وستكار في عام 1824م تقريبًا.
تحتوي البردية على أربع قصص يرويها أبناء خوفو وتتضمن قصة يستدعي فيها الملك "خوفو" ساحرًا إلى البلاط يدعي قدرته على إعادة ربط رأس مقطوع بجسد، استشف بعض العلماء من نوعية طلبه بأنه كان قاسيًا أو طائشًا، فوفقًا لباربارا واترسون، "تصوره بردية ويستكار على أنه مستهتر بالحياة" وتظهره نقوش أخرى على أنه "ظالم ومستبد" (51)، ومع ذلك، في قصة الساحر والرأس المقطوع، يبدو "خوفو" في الغالب متشككًا في قدرات العراف، أما القصص الأخرى، على الرغم من أنها مروية على لسان أبناء "خوفو" أو خلفائه، فهي تتعلق بملوك آخرين. لا تشر بردية ويستكار إلى أن "خوفو" كان طاغية أو ظالمًا بأي شكل من الأشكال.
يرجح أن الإغريق القدماء الذين وصفوا "خوفو" بالطاغية أخذوا أفكارهم من هيرودوت الذي كتب أن "خوفو" جلب إلى مصر "كل أنواع الشرور" من أجل مجده الشخصي، حيث أجبر "مائة ألف رجل في وقت واحد، لمدة ثلاثة أشهر متواصلة" على العمل في هرمه (الجزء الثاني: 124)، علاوة على ذلك، يدعي هيرودوت أن "خوفو" كان في حاجة ماسة إلى المال لدرجة أنه أرسل ابنته للعمل في بيوت البغاء في منف وطلب ثمنًا باهظًا مقابل خدماتها (الجزء الثاني: 124). تكذب النصوص المصرية ادعاءاته، حيث تشيد بعهد "خوفو"، والأدلة المادية أيضًا تشير إلى أن العمال في الهرم الأكبر كانوا يحظون برعاية جيدة ويؤدون واجباتهم بصفتهم جزء من خدمة مجتمعية أو عمال بأجر أو خلال فترة فيضان النيل التي جعلت الزراعة مستحيلة. يلاحظ الباحثان بوب برير وهويت هوبز:
"لم يكن هذا البناء ليكون. لولا الشهرين من كل عام اللذين كانت مياه النيل تغطي فيهما مياه النيل الأراضي الزراعية في مصر، مما أدى إلى تعطيل القوى العاملة بأكملها تقريبًا، كان الفرعون في مثل هذه الأوقات، يقدم الطعام مقابل العمل والوعد بمعاملة حسنة في العالم الآخر حيث سيحكم كما كان يحكم في هذا العالم. ولمدة شهرين سنويًا، كان العمال يتجمعون بعشرات الآلاف من جميع أنحاء البلاد لنقل الكتل التي كان الطاقم الدائم يقوم بحفرها خلال بقية العام. نظّم المشرفون الرجال في فرق لنقل الحجارة على زلاجات، وهي أجهزة أكثر ملاءمة من المركبات ذات العجلات لنقل الأجسام الثقيلة فوق الرمال المتحركة، وسهّل الجسر الذي شُحِمَ بالماء عملية السحب صعودًا. لم يستخدم أي ملاط لتثبيت الكتل في مكانها، بل رُكِبت بدقة شديدة لدرجة أن هذه الهياكل الشاهقة بقيت على قيد الحياة لمدة 4000 سنة - وهي الوحيدة من عجائب الدنيا القديمة التي لا تزل قائمة حتى اليوم. (17-18)"
الهرم الأكبر، في الواقع، هو الوحيد من بين الآثار الموجودة في الجيزة الذي كان يعتبر أحد عجائب الدنيا السبع القديمة ولسبب وجيه: فحتى اكتمال برج إيفل في عام 1889 م، كان الهرم الأكبر هو أطول بناء على وجه الأرض بُني بأيدي البشر. كتب المؤرخ مارك فان دي ميروب:
"إن حجمه يحير العقل: كان ارتفاعه 146 متراً (479 قدماً) في 230 متراً عند القاعدة (754 قدماً). نستطع أن نقول إنه كان يحتوي على 2,300,000 كتلة من الحجارة بمتوسط وزن 2 و3/4 طن يصل وزن بعضها إلى 16 طن. حكم خوفو 23 عامًا وفقًا لقوائم بردية تورين الملكية، مما يعني أنه طوال فترة حكمه كان يجب استخراج 100,000 كتلة سنويًا - حوالي 285 كتلة يوميًا أو كتلة واحدة كل دقيقتين من النهار - ونقلها وطلائها ووضعها في مكانها... كان تصميم البناء لا تشوبه شائبة تقريبًا. كانت الجوانب موجهة بالضبط نحو الاتجاهات الأصلية وكانت بزاوية 90 درجة بدقة. (58)
كان الشعب المصري معجبًا بالملك "خوفو"، مهما كانت نَظْرَة هيرودوت والإغريق اللاحقين إليه. نمت مصر وأصبحت أكثر ثراءً خلال فترة حكمه، عن طريق حملاته العسكرية ضد النوبة وليبيا واتفاقاته التجارية المزدهرة للغاية مع مدن مثل جبيل، كما كرس موارده لتحسين حياة رعاياه من خلال الابتكارات الزراعية. كتب ميروسلاف فيرنر: "في عهده بُنِيَ أقدم سد معروف في العالم في وادي جراوي في الجبال الواقعة غرب حلوان الحديثة" (155). ساعد هذا السد المزارعين وغيرهم في المجتمع عن طريق تحسين إمدادات المياه.
بالرغم من أن منف ظلت عاصمة مصر خلال فترة حكم "خوفو"، إلا أنه على الأرجح عاش في قصر في الجيزة ليشرف بنفسه على العمل في الهرم الأكبر، ولكي يحافظ على أقصى قدر من الكفاءة في الحكم ويقلل الهدر في الوقت، أعطى أكبر قدر ممكن من السلطة لأفراد أسرته الثقات، الذين لا بد أنهم كانوا سعداء بهذا الترتيب حيث لا يوجد سجلات عن أي صراع داخلي خلال فترة حكمه.
خفرع وأبي الهول ومنكاورع
خلف "خوفو" بعد وفاته، أحد أفراد الأسرة من خارج السلالة الشرعية يُدعى "دجيدف رع" (2566-2558 ق.م). يشير فيرنر إلى أن علماء المصريات الأوائل اعتبروا تدمير مجمع هرم هذا الملك في أبو رواش دليلًا على صراع عائلي داخلي، ولكن في الواقع، "بدأ التدمير المكثف في العصر الروماني، عندما تحول هذا النصب التذكاري إلى مقلع للحجارة" واستخدم الرومان الحجر في مشروعات بناء أخرى (156). كان "دجيدف رع" بالتأكيد ابنًا خوفو، ولكن يبدو أنه لم يكن خليفته المختار، ومع ذلك، يبدو أن النظريات المتعلقة بالمؤامرات العائلية ضده لا أساس لها من الصحة.
إن الجانب الأكثر أهمية، رغمًا عن ذلك، في عهد "دجيدف رع" ليس هرمه أو الادعاء بأنه بنى أبو الهول، بل ربطه لمنصب الملك بعبادة إله الشمس رع، حيث كان أول ملوك مصر الذين أطلقوا لقب "ابن رع" على نفسه مما يدل على تبعية الملك لإله الشمس. ربط الملك "رع نب" من الأسرة الثانية، اسمه بالآلهة، وبذلك أصبح الملك ممثل الآلهة على الأرض، والتجسيد الحي لهم، وبعد إصلاح "دجيدف رع"، سيظل يُنظر إلى الملك بصفته ممثل للآلهة ولكن الآن في وضع أكثر تبعية باعتباره ابنًا للإله.
يعتبر بعض العلماء (مثل دوبريف في عام 2004 م) "دجيدف رع"، مبتكر تمثال أبو الهول في الجيزة، بينما ينسبه آخرون إلى أخيه وخليفته "خفرع" (2558-2532 ق.م). تمثال أبو الهول هو أكبر تمثال من كتلة واحدة في العالم، وهو ذو جسد أسد متكئ وبرأس ووجه ملك، وعادةً ما يُقبل وجه هذا الملك على أنه "خفرع"، لكن دوبريف وآخرون يزعمون أنه قد يكون في الواقع وجه "خوفو"، ومن المرجح أن يكون من صُنع "خفرع" لأنه يتماشى تمامًا مع مجمع أهراماته، ويبدو أن وجه أبو الهول يشبه وجه "خفرع" أكثر من وجه "خوفو". كتب برير وهوبز
"يرتفع هرم خفرع أعلى من جاره الشهير (الهرم الأكبر)، على الرغم من أنه كان في الواقع أقصر بعشرة أقدام عندما كان جديدًا، ولا يزل غلافه اللامع من الحجر الجيري الأبيض، الذي نُقل بالقوارب من المحاجر عبر النيل، يغطي الجزء العلوي منه، حيث وضع فوق كتل الحجر الجيري الداخلية التي قُطِعت من موقع قريب بالجيزة، ومن المحتمل أنه خلال تحرير هذه الكتل الداخلية، اصطدم عمال المحاجر بعِرق من الصخور الصلبة التي تجنبوها، تاركين تلًا صغيرًا. نحت خفرع هذا التل على شكل أسد راقد يحمل وجهه (أبو الهول الشهير). (16)"
هرم "خفرع" هو ثاني أكبر هرم في الجيزة ومجمعه يكاد يكون بنفس عظمة هرم أبيه. لا يُعرف الكثير عن فترة حكمه، لكن الإغريق (الذين أطلقوا عليه اسم خيفرن) كانوا ينظرون إليه كما كانوا ينظرون إلى أبيه: فهو طاغية ظلم شعبه من أجل بناء صرحه الجنائزي الضخم. تشير النصوص المصرية إلى أنه اتبع سياسات أبيه ونموذجه في الحكم في وضع السلطة في يد أقرب أفراد أسرته وإحكام السيطرة على السياسات والقوانين.
ربط "خفرع" نفسه بالإله حورس (كما فعل الملوك السابقون)، واعتبر أبو الهول صورة للملك باعتباره الإله حورمَخِت (حورس في الأفق)، إلا أنه على عكس ملوك العصر العتيق، أشار خفرع - ومن جاء بعده - إلى نفسه على أنه "ابن حورس"، ومرتبط بالإله وليس بالإله الحي نفسه، وبالرغم من أن سلطة تفسير إرادة الآلهة كانت لا تزل ضمن نطاق نفوذ الملك، إلا أن سلطة تفسير إرادة الآلهة أصبحت بشكل متزايد من اختصاص الكهنة الذين خدموا تلك الآلهة.
انقطعت وراثة العرش بعد وفاة "خفرع"، مرة أخرى لفترة وجيزة عندما تولى العرش "باكا" ابن "دجيدف رع"، ومع ذلك، لم يمضِ على حكمه عام واحد قبل أن يصبح "منكاورع" (2532-2503 ق.م)، ابن "خفرع"، ملكًا. ينظر كل من الإغريق والنصوص المصرية إلى "منكاورع" (المعروف باسم ميكيرينوس عند الإغريق) نَظْرَة إيجابية. بدأ منكاورع مثل أبيه وجده، في بناء مجمع الأهرام والمعابد في الجيزة.
بالرغم من أن هَضْبَة الجيزة اليوم موقع قديم اجتاحته الرمال في ضواحي القاهرة، إلا أنها كانت في زمن "منكاورع" مدينة الأموات التي يسكنها الأحياء الذين كانوا يهتمون بها، وكانت منازل الكهنة والمعابد ومساكن العمال والمتاجر والمصانع ومعامل الجعة وجميع مظاهر المدينة الصغيرة موجودة في الجيزة.
شيد المصريون في الواقع أهرام الجيزة، وذلك خلافًا للاعتقاد الشائع بأنها بُنيت عن طريق السخرة (وتحديدًا سخرة اليهود)، وكان الكثير من العمال ذوي المهارات العالية يتقاضون أجورًا مقابل وقتهم. يُعتقد أن الأهرام تمثل التل البدائي، "بن بن"، الذي ارتفع لأول مرة من مياه الفوضى في بداية الخلق، وبالرغم من أن العمال العبيد من النوبة وليبيا وحتى كنعان وسوريا، كانوا على الأرجح يُستخدمون في المحاجر لقطع الصخور أو في مناجم الذهب، إلا أنهم ما كانوا ليُؤتمنوا على صنع بيت الملك الأبدي على صورة الأرض الأولى التي ارتفعت من المياه.
لم يكتشف أي مساكن للعبيد في الجيزة، ولا توجد سجلات مصرية تروي أي حدث مثل ذلك الذي ورد في سفر الخروج التوراتي، لكن عثرنا على مساكن للعمال ومنازل المشرفين وكلها توضح أن العمل الذي أُنجز في هضبة الجيزة في الدولة القديمة كان يقوم به مصريون يعملون مقابل أجر.
إن هرم ومجمع "منكاورع" أصغر من الهرمين الآخرين، وهذا يدل على تطور مهم في تاريخ الدولة القديمة وأحد أسباب انهيارها. لم تكن الموارد اللازمة لبناء الهرم الأكبر متوفرة في عصر "منكاورع"، ولكنه مع ذلك اعتمد على ما في يده من موارد لبناء بيت أبدي يضاهي بيت أبيه وأجداده.
توفي ابن "منكاورع" وخليفته المختار "خو إن رع" أثناء بناء الهرم، مما أخلّ بتسلسل وراثة العرش، وتوفي "منكاورع" نفسه قبل اكتمال بناء مجمع الهرم، وبالرغم من أنه حكم حوالي ثلاثين عامًا، فإنه لم يتمكن من إكمال ما أنجزه أسلافه، وهذا يدل بالنسبة للعديد من العلماء (من بينهم فيرنر وواترسون) على قلة الموارد المتاحة له. أكمل خليفته "شبسس كاف" (2503-2498 ق.م) مجمع "منكاورع" في الجيزة، ولكنه دُفن في مصطبة متواضعة إلى حد ما في سقارة.
كان الملوك، كما أشرنا سابقًا، يصرفون موارد هائلة على آثارهم ومجمعاتهم الجنائزية، ولكن هذه المعابد والمزارات لم تعد تحت سيطرة الملك بل تحت سيطرة الكهنة الذين كانوا يديرونها، بعد فترة حكم "شبسس كاف" القصيرة انتهت الأسرة الرابعة وبدأت الأسرة الخامسة بأقل كثير مما كانت عليه عندما خلف "سنفرو" حوني.
الأسرتان الخامسة والسادسة والانهيار
كان "سنفر" أول من ربط أسرته بعبادة الإله رع الشمسية، ولكن "دجيدف رع" هو الذي خفض مكانة الملك من إله حي إلى ابن ذلك الإله، وازدادت سلطة الكهنة على حساب العرش، ولكن مع ذلك كان الملك هو ممثل الآلهة على الأرض وكان يحظى بالاحترام والسلطة، اللذان بدئا في التضاؤل رغما عن ذلك.
تُعرف الأسرة الخامسة باسم أسرة ملوك الشمس لأن أسماء الكثيرين منهم تحمل اسم الإله رع (عادةً ما يُطلق عليها اسم أسرة رع). سيُكرَّم الملوك الثلاث الأوائل (أوسركاف وساحور ونفر إر كارع) فيما بعد بصفتهم معينون إلهيًا في قصة "مولد الملوك" من بردية ويستكار. تبدأ الأسرة بالملك أوسركاف (2498-2491 ق.م)، ولكن هناك امرأة تدعى "خنت كاوس"، وهي على الأرجح ابنة "منكاورع"، تظهر بشكل كبير في نقوش ذلك الوقت باعتبارها "أم ملكين من ملوك مصر العليا والسفلى" بالرغم من عدم معرفتنا من هما هذان الملكان، ومقبرتها هي الهرم الرابع في الجيزة، ومن الواضح أنها كانت شخصية غاية في الأهمية، ولكن لا نعرف عنها سوي القليل.
اشتُهِرَ أوسكاف ببناء معبد الشمس في أبوصير، ويمثل هذا المبنى خروجًا مهمًا عن دور الملك في بداية الأسرة الرابعة وبداية نهاية الجيزة باعتبارها جبانة للملوك. عبد الشعب إله الشمس رع الآن مباشرًة من خلال معابد الكهنة وتضاءل دور الملك باعتباره ممثل مباشر للإله. تعلق باربرا واترسون على ذلك:
"كان اسم (نسو-بيت ((ملك مصر العليا والسفلى) في الأسرة الرابعة، أحد مكونات اللقب الملكي، وكان يُكتب أحيانًا داخل خرطوش، مما يدل على أن الملك يحكم كل ما يطلع عليه قرص الشمس أو رع، وأصبح استخدام الخرطوش أمرًا عاديًا في الأسرة الخامسة، عندما تبنى الملوك لقب (ابن رع). عُدَّ الملوك في الأسر السابقة، التجلي الدنيوي للإله حورس، ولكن بإضافة اللقب الجديد إلى اللقب الملكي، خفضوا من منزلتهم من إله إلى ابن الإله. تآكلت سلطة الملك الإلهية أكثر في الأسرة الخامسة عندما أقيمت المعابد في مواقع الأهرامات ليس لعبادة الملك كما في السابق، بل للاحتفال بعبادة رع. (52)"
خلف "أوسكاف" ابنه "ساحو رع" (2490-2477 ق.م) الذي بنى مجمعه الجنائزي في أبوصير بالقرب من معبد الشمس. كان "ساحو رع" حاكمًا كفؤًا، حيث نظم أول بَعثة مصرية إلى بلاد بونت وتفاوض على اتفاقيات تجارية مهمة مع الأمم الأخرى، ومع ذلك، كانت بلاد بونت من بين أعظم إنجازاته، حيث ستصبح مصدرًا مهمًا للعديد من الموارد المصرية الأكثر قيمةً، ومع مرور الوقت، عُدّت أرض الآلهة الأسطورية.
بِنَى "ساحو رع" معبده الخاص للشمس في أبوصير وكان أول من استخدم الأعمدة ذات الأشكال النخلية في العمارة والتي ستصبح معيارًا للأعمدة في جميع أنحاء مصر منذ ذلك الحين (الأعمدة المعروفة التي تتخذ قممها هيئة سعف النخيل). أدت بعثات "ساحو رع" العسكرية واستخدامه الحكيم للموارد إلى إثراء البلاد، كما يتضح من الأعمال المتقنة التي قام بها في مجمع الجنائز والنقوش التي عُثِرَ عليها.
خلف "ساحو رع" ابنه "نفر إر كارع" (2477-2467 ق.م). تشير النقوش إلى أنه كان ملكًا جيدًا ومحترمًا جدًا، ولكن لا يُعرف الكثير عن فترة حكمه باستثناء ازدياد قوة الكهنة خلالها. خلفه ابنه، "نفر ف رع" (2460-2458 ق.م)، لكنه توفي بعد فترة قصيرة من حكمه، ربما في سن العشرين تقريباً. وخلفه الملك "شبسس كارع"، ولكن لا يُعرف شيء عن فترة حكمه.
خلف "شبسس كارع" ابنه "ني أوسر رع" (2445-2422 ق.م) الذي اكتسب كهنة رع في عهده المزيد من السلطة، كما زادت البيروقراطية في المعابد والمجمعات الجنائزية، مما زاد من الضغط على الخزانة الملكية التي كانت تدفع تكاليف صيانة المعابد، خلفه الملك "منكاو حور كايو" (2422-2414 ق.م)، ولكن لا يُعرف الكثير عن فترة حكمه سوى أنه كان آخر ملك بنى معبداً للشمس، ثم خلفه "جد كا رع" (2414-2375 ق.م).
أصول "جد كا رع" غير معروفة، وهو لا يُعد ابنًا لــ "منكاو حور كايو" ولكن من الممكن أن يكون أحد أقربائه. اتسمت فترة حكمه بإصلاحات واسعة النطاق في البيروقراطية والكهنوت في محاولة منه للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي. رفض "جد كا رع" الممارسة التقليدية المتمثلة في بناء معبد لإله الشمس وخفض عدد الكهنة اللازم لصيانة المجمعات الجنائزية، كما نظم الحملة الاستكشافية الثانية إلى بلاد بونت التي أثرت مصر وعززت العلاقات مع بلاد بونت.
يُحتمل أن إعراض "جد كا رع" عن عبادة إله الشمس، بسبب تطور عبادة "أوزوريس" التي تركز على الحياة الأبدية عن طريق الارتباط بالإله الذي مات وعاد إلى الحياة، وبالرغم من أن عبادة "أوزوريس" لن تصبح شائعة حتى عصر الدولة الوسطى في مصر (2040-1782 ق.م)، إلا أن الأدلة تشير بقوة إلى أن هذا الإله الزراعي السابق كان مرتبطًا بالفعل بالموت والبعث خلال الدولة القديمة، وحقيقة أن الإله "جد كا رع" بجلته طائفته الخاصة لعدة قرون بعد وفاته تدعم هذا الادعاء. أصبحت عبادة "أوزوريس" في نهاية المطاف أكثر انتشارًا وشعبية من عبادة رع، وسيحظى "جد كا رع" بصفته أحد أتباع هذه العبادة في وقت مبكر، باحترام كبير من الأعضاء اللاحقين.
كان الجانب الأكثر أهمية في عهد "جد كا رع" رغمًا عن ذلك، هو تطبيق اللامركزية في حكومة منف، مما وضع سلطة أكبر في أيدي المسؤولين المحليين، حدث ذلك لتقليل تكاليف البيروقراطية الضخمة التي نمت خلال الأسرة الرابعة وبدايات الأسرة الخامسة، وبالرغم من أن الفكرة ربما كانت منطقية، إلا أنها أعطت بشكل أساسي مزيدًا من السلطة للمناطق التي كان الكهنة المحليون يتمتعون فيها فعلًا بنفوذ كافٍ لإصدار الأوامر للمسؤولين الحكوميين، وبالتالي جعل جهود الملك السابقة للحد من سلطة الكهنة غير ذات صلة تقريبًا.
خلف "جد كا رع" ابنه "أوناس" (2375-2345 ق.م) الذي لا يُعرف الكثير عن فترة حكمه. كان "أوناس" أول ملوك مصر الذين نقشت مقبرته من الداخل بنقوش، والتي أصبحت تُعرف باسم "نصوص الهرم". تُظهر هذه النقوش الملك في شراكة مع "رع وأوزوريس" مما يضفي مزيدًا من الدعم للادعاء بأن "جد كا رع" تأثر بعبادة "أوزوريس" في إصلاح كهنوت رع حيث أن الملك الذي خلفه (أوناس) وضع الإلهين على قدم المساواة في قبره.
انهيار واضمحلال الأسرة السادسة
تضاءل دور الملك إلى حد بعيد فعلًا، مع بدايات الأسرة السادسة. كان المسؤولون والإداريون المحليون في عهد الملك الأول، "تتي" (2345-2333 ق.م)، يبنون مقابر أكثر إتقانًا من النبلاء، ووفقًا للمؤرخ "مانيتون" الذي يعود للقرن الثالث قبل الميلاد، قُتل "تتي" على يد حراسه الشخصيين، وهي جريمة لم يكن من الممكن تصورها في السابق، ثم خلفه " أوسر كا رع" (2333-2332 ق.م) الذي ربما كان وراء مؤامرة اغتيال الملك.
كانت فترة حكم " أوسر كا رع" قصيرة، ثم خلفه "بيبي الأول" (2332-2283 ق.م) الذي أصبح في عهده "حكام الأقاليم" (المسؤولون المحليون عن النواميس) أكثر قوة. استمر هذا الاتجاه في عهد "مرن رع الأول" (2283-2278 ق.م) وفي عهد "بيبي الثاني" (2278-2184 ق.م) الذي تولى العرش وهو طفل ومات وهو شيخ، مما يمثل فترة حكم كبيرة قاربت المئة عام.
انهارت الدولة القديمة بشكل مطرد، في عهد "بيبي الثاني" الطويل، وأدت القوة المتزايدة لحكام الأقاليم إلى جانب الكهنة إلى تآكل سلطة الملك والحكومة المركزية. كتبت باربرا واترسون:
"تراجعت سلطة الملك بسرعة، قرب نهاية الأسرة السادسة، ويرجع ذلك إلى حد بعيد إلى التكلفة غير المستدامة على الخزانة الملكية لصيانة الآثار الجنائزية للملوك السابقين وتقديم الهدايا مثل: الأدوات الجنائزية وهبات القرابين للنبلاء، وأدى وقف الكهنة الجنائزيين الذين خدموا أعدادًا متزايدة من المقابر إلى نقل الثروة من الملك إلى الكهنوت، وفي الوقت نفسه، ازدادت سلطة حكام الأقاليم حتى أصبحوا أسياد إقطاعاتهم الخاصة. (52)"
خلف "بيبي الثاني" "مرن رع الثاني" (حوالي 2184 ق.م) الذي كان حكمه قصيرًا جدًا، وانتهت السلالة الحاكمة مع "نت جر كا رع" (المعروف أيضًا باسم نت جر كا رع سبتاح، 2184-2181 ق.م) الذي عرفه بعض الباحثون وعلماء المصريات (مثل بيرسي إ. نيوبيري وتوبي ويلكنسون) على أنه الملكة "نيتوكريس" وفقًا لرواية هيرودوت (التاريخ، الكتاب الثاني 100) عن ملكة مصرية تنتقم لمقتل أخيها بقتل قاتليه أثناء مأدبة. تقدم نيوبيري دليلًا مقنعًا بشكل خاص على أن رواية هيرودوت، التي يعتبرها الكثيرون أسطورة، دقيقة على الرغم من عدم وجود سجل مصري لمثل هذا الحدث.
عاش "بيبي الثاني" أكثر من أي خلفاء للعرش، ويبدو أنه كان ملكًا غير فعال إلى حد ما في سنواته الأخيرة، فعندما جاء الجفاف بالمجاعة إلى الأرض، لم يعد هناك أي حكومة مركزية مسئولة للاستجابة لها، وانتهت الدولة القديمة مع الأسرة السادسة حيث لم يعتل العرش أي حاكم قوي لقيادة الشعب، في ظل اهتمام المسؤولون المحليون بمجتمعاتهم المحلية ولم يكن لديهم موارد، ولم يشعروا بالمسؤولية لمساعدة بقية البلاد، وبزوال الأسرة السادسة، انحدرت مصر ببطء إلى العصر الذي يصنفه العلماء الآن بعصر الاضمحلال الأول.