يختلف إنجيل يوحنا الرابع اختلافًا فريدًا عن أناجيل العهد الجديد الثلاثة الأخرى، والمعروفة باسم الأناجيل الإزائية ("المتشابهة")، فلدى كل من مرقس ومتى ولوقا أناجيل متوازية في نقل قصة يسوع الناصري بصفته نبي من أنبياء نهاية العالم لبني إسرائيل، أما يسوع يوحنا فهو “theos aner/ θεῖος ἀνήρ” "رجل إلهي" غامض تصاغ خطاباته في إطار خطاب الفلسفة اليونانية.
تُدُووِلَ إنجيل يوحنا أول مرة دون اسم، مثل الأناجيل الثلاثة الأخرى. يتضمن هذا الإنجيل شخصية يُشار إليها بصيغة الغائب، "التلميذ المحبوب" وهو تلميذ مقرب ليسوع. ادعى آباء الكنيسة خلال القرن الثاني الميلادي، أن رجلًا معروفًا باسم يوحنا الشيخ من جماعة أفسس كان أحد آخر تلاميذ يسوع الأحياء، وزعموا أنه هو "التلميذ المحبوب"، أخو يعقوب (ابني زبدي)، ومن هنا جاءت التسمية.
يؤرخ يوحنا تقليديًا بنهاية القرن الأول الميلادي، ولا يرجع ذلك إلى أي تواريخ مذكورة في إنجيله. تبدو تعاليم يسوع يوحنا أكثر روحانية، حيث يسعي إلى مفاهيم أسمى للتجربة الدينية. كان يُفترض أن هذه الأفكار ستستغرق وقتًا لتتطور، ولذلك حُدِّدَ وجود يوحنا إلي عام 100 ميلاديًا، لكن الباحثون المعاصرون يطعنون في هذا التاريخ.
طبيعة المسيح عند يوحنا
تعني "الكريستولوجيا" ببساطة "دراسة المسيح"، لكنها تشير إلى دراسة طبيعته، لمعالجة مسألة ما إذا كان يسوع إلهًا أم إنسانًا؟ توصف الأناجيل الإزائية بأنها منخفضة الكرستولوجيا، حيث يسوع البشري الذي لم يرقي إلى الألوهية إلا بعد قيامته وصعوده، على النقيض من ذلك، يُوصَف إنجيل يوحنا بأنه عالي الكرستولوجيا، لأنه يصور يسوع على أنه وجود إلهي موجود مسبقًا ومشارك في الخلق.
إن أحد الأسباب التي تجعل تاريخ يوحنا موضع جدل هو تطابق كرستولوجيته مع كرستولوجيا بولس الرسول في كثير من النواحي. يعود تاريخ رسائل بولس إلى خمسينيات وستينيات العصر نفسه. ادعى بولس (الذي تعلم الفلسفة اليونانية أيضًا) أن المسيح كان حاضرًا عند الخلق، ولكنه "وَضَعَ نَفْسَهُ" ليتخذ جسدًا من أجل تحقيق الخلاص للبشر (فيلبي 2: 8). قد تظهر كرستولوجيا يوحنا العالية تاريخًا أقدم بكثير للممارسة المسيحية الخاصة بعبادة المسيح بصفته إله أو هو الإله نفسه.
التوحيد الفلسفي
لا يزل إنجيل يوحنا يخضع للتحليل بخصوص المصادر التي استخدمها من الأناجيل الإزائية ومصادره المستقلة. كان مصدره الرئيس هو تعليمه الفلسفي. استكشف أفلاطون العَلاقة بين البشر والإله (قُوَى الكون)، وطرح فكرة الواحد، الحقيقة المطلقة الأصلية، الخير الأسمى، التي انبثقت منها القُوَى الأخرى، وهناك قوة "أقل"، وهي "الديمورجوس" خالق الكون المادي. "أقل" بمعنى أن المادة كانت عرضة للاضمحلال والموت وبذلك لم تكن نتاج الواحد الكامل.
ظل الواحد مع ذلك، مرتبطًا بالكون بواسطة مفهوم يُعرف باسم اللوغوس. كان اللوغوس، الذي غالبًا ما يُترجم إلى "الكلمة"، هو مبدأ العقلانية الذي نظم الكون من المادة وفسر النظريات الكونية (مثل دوران الكواكب والجاذبية وتعاقب النباتات والحيوانات والبشر). حاول فيلون الفيلسوف اليهودي في الإسكندرية في القرن الأول الميلادي التوفيق بين اليهودية والمزاعم الفلسفية اليونانية، حيث أوضح أن موسى كان بمثابة اللوغوس لليهودية، حيث قدم موسى الهيكل الرسمي وقوانين الشريعة للأمة اليهودية.
مقدّمة يوحنا
"فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ. كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. هذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ. وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا." (يوحنا 1: 14)
ساهمت افتتاحية يوحنا في العقيدة المسيحية المعروفة بالتجسد، من كلمة "جَسَدِيّ" في اللاتينية بمعنى "جَسَدٍ"، كان مفهومًا أن يسوع لم يولد بالطريقة التقليدية، وبصفته اللوغوس الأصلي، "صَارَ جَسَدًا"، أي جسدًا ماديًا، ببساطة ليتواصل معنا.
استخدم الأساقفة المسيحيون في القرن الثاني الميلادي، عقيدة يوحنا في اللوغوس ليقولوا إن المسيحية كانت تعلّم نفس المبادئ التي كانت تعلّمها كل مدارس الفلسفية، بعبارة أخرى، لم تكن المسيحية شيئًا جديدًا وكانت تعلّم نفس عناصر الفلسفة، ولكن الآن تقدمها بفهمها الصحيح:
- كان الواحد في الواقع إله إسرائيل.
- كان اللوغوس هو الشكل السابق لوجود المسيح قبل ظهوره على الأرض.
المجاز والاستعارة
كانت الأساليب التي استخدمها الفلاسفة القدماء في كثير من الأحيان لوصف الكون، وكذلك الأساطير التقليدية، تعتمد على المجاز والاستعارة، فالمجاز هو أداة أدبية تطرح معاني خفية عن طريق الشخصيات الرمزية والأفعال والصور والأحداث، وعادةً ما تقدم تفسيرًا روحيًا أو أخلاقيًا. يقدم المجاز طريقة يمكن من خلالها انفتاح النص على تفسيرات أكثر مما يُفهم تقليديًا، أما الاستعارة هي تعبير مجازي يتم فيه استبدال كلمة أو عبارة ما، على سبيل المثال "الكون بحر من المتاعب".
استخدم كاتب إنجيل يوحنا المجاز والاستعارات لشرح تعاليم يسوع، حيث استخدم باستمرار لغة "فوق" و "تحت"، للإشارة إلى الروحية والدنيوية. كان يسوع، حتى وهو على الأرض، موجودًا في "مستوى أعلى" من أي شخص آخر، فعندما تحدث إلى نيقوديموس عن الولادة من جديد، سأل نيقوديموس المسكين كيف يمكن أن يولد من جديد في رحم الأم. لم يفهم مستمعيه أبدًا لأن يسوع كان "من فوق" وهم كانوا "من أسفل". نحن نرى التَبَايُن في كثير من الأحيان بين الفهم الحرفي لشيء ما وبين العالم "الفوقي" أو العالم الروحي.
يسلط الضوء على "فوق وتحت" لشرح مفهومي النزول والصعود. نزل يسوع إلى الأرض من الآب وتنبأ بأنه سيصعد ويعود إلى الآب مرة أخري، فكلمة "صُلْب" تعني أيضًا "رفع". لم يطبق يسوع في يوحنا أبدًا المعنى الحرفي للصلب في حد ذاته؛ حيث أشار دائمًا إلى موته القادم على أنه "أَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ" إلى الآب.
تنبع بعض من أكثر الاقتباسات التي لا تنسى من إنجيل يوحنا من استعارات "أَنَا هُوَ" في النص، وهي سبعة في المجموع:
- أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ.
- فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ.
- إِنِّي أَنَا بَابُ الْخِرَافِ.
- أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ
- أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ.
- أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ.
- أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ.
هذا إعلان جريء، "أَنَا هُوَ"، حيث يُكرر قصة موسى عندما سأل الله عن اسمه فأجابه الله: "أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ" (خروج 3: 14). هذا هو مبرر يوحنا المنطقي ليسوع باعتباره الشخصية الوحيدة الموثوق بها للتبشير بـ "الحق". يسوع في إنجيل يوحنا له سلطان لأنه الوحيد الذي رأى الآب ولأنه جاء من الآب. أصبحت عبارة يوحنا "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ." في النهاية ادعاء للكنيسة بأن الخلاص لا يوجد إلا عن طريق الإيمان المسيحي.
أبرز ما جاء في إنجيل يوحنا
لدى يوحنا بعض العناصر الفريدة الأخرى التي تميزه عن الأناجيل الإزائية:
- يحتوي يوحنا على إنكار لتعميد المعمدان ليسوع، مؤكدًا على استقلاله عن المعمدان وتفوقه عليه، حيث جعل يوحنا المعمدان يقول على وجه التحديد أنه يجب أن "ينقص" لكي "يزيد" يسوع، هنا يشير يوحنا لأول مرة إلى يسوع على أنه "حَمَلُ اللهِ" (يوحنا 1: 29) أي قارئ فطن سيدرك على الفور أن يسوع سيكون الحمل الذبيح الذي سيموت في عيد الفصح.
- لا يصف يوحنا يسوع بأنه، متأملاً ذاتيًا في البرية، ولا مُجربًا من الشيطان في البرية، ولا متعذبًا في بستان الجثسيماني، فيسوع يوحنا شديد الارتباط بـ "الآب" لدرجة أنه لا يمكن أبدًا أن يُجرَّبه الشر الدنيوي، ولم يذكر طرده للأرواح الشريرة. اليهود يرمزون إلى الشيطان والشر، ويجب التغلب عليهم بوحي الحق الإلهي (انظر أدناه).
- تختلف تعاليم يوحنا اختلافًا جذريًا عن تعاليم الأناجيل الإزائية، فلا يوجد مَثَل واحد في هذا الإنجيل، وعِوضًا عن ذلك، لدينا خطابات فلسفية طويلة تشير إلى طبيعة الله والكون، وطبيعة يسوع، ومن هو؟ وكيفية اكتشاف الحقيقة الكونية؟
- لا توجد مناظرات وحوارات اشتباكيه حول شريعة موسى، فعلى خلاف الأناجيل الإزائية، لم يدخل يسوع في جدال دائم مع السلطات حول قضايا مثل الطلاق والسبت والطقوس والعشور. لم يقدم إنجيل يوحنا سوى وصية واحدة جديدة، وصية المحبة. محبة الأصدقاء والرفاق (ولكن فقط داخل دائرة المؤمنين) التي تصبح الطريقة التي تميّز التلاميذ عن الآخرين.
- يقدم إنجيل يوحنا عددًا أقل من المعجزات والآيات، فهو يكرر فعلًا العديد من معجزات يسوع التي في بقية الأناجيل، مثل المشي على الماء أو تكثير الأرغفة والأسماك، ومع ذلك، يخفض عدد المعجزات إلي سبع، ويُعاد صياغة بعضها فيمَا يصفه العلماء بـ "الآيات والمعجزات". يُعيد يوحنا صياغة بعض المعجزات الإزائية لتسليط الضوء على قوة يسوع التي تفوق أيًا من الأنبياء، وحتى موسى بسبب مكانته الفريدة.
مثال على ذلك إقامة لعازر، التي لا نجدها إلا في إنجيل يوحنا، حيث نقرأ أن يسوع بقي بعيدًا متعمدًا، على الرغم من وصول خبر مرض لعازر إليه، ثم ظهر في اليوم الرابع بعد موته، وكان القبر مغلقًا بالفعل، وحسب التقاليد، فإن اليوم الرابع بعد الموت هو اليوم الذي يبدأ فيه الجسد في التحلل، في حين أن في الأناجيل الإزائية قصصًا عن إقامة يسوع للموتى، إلا أن ذلك كان يتم قريبًا من وقت الموت الفعلي. النقطة الهامة في إنجيل يوحنا هي أنه على عكس غيره من صانعي العجائب والقدّيسين المتجولين، فإن يسوع هذا لديه القدرة حتى على إقامة شخص ما بعد التحلل - وهي علامة على قوة الله الكاملة والمتساوية في هذا الشخص.
تعديلات يوحنا على محاكمة وصلب يسوع الناصري
يقدم مرقس -فيما يتعلق بمؤامرة قتل يسوع-، حوارات الصراع في بداية خدمته، أما يوحنا يعقد اجتماع السنهدريم مباشرًة بعد حادثة إقامة لعازر لأن "هذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ، فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا." (يوحنا 11: 47-48)، يتكلّم قَيَافَا رئيس الكهنة ويقول: "وَلاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا!" (11: 50). عدّ العديد من العلماء رواية يوحنا تفسيرًا أكثر مصداقية لفهم معارضة اليهود ليسوع وخدمته.
يلتقي يسوع بتلاميذه في الأناجيل الإزائية، في عشاء الفصح، تحديدًا الليلة الأولى من العيدـ أما في يوحنا، العشاء الأخير يتم مساء الأربعاء، ثم ينقل الصُّلْب الفعلي إلى ساعات النهار قبل بَدْء عيد الفصح مباشرة. هذا يتعلق بصورة "الحَمَلُ"، فخلال ساعات النهار قبل بَدْء عيد الفصح عند غروب الشمس، كان الكهنة مشغولين بذبح الخراف للجميع في ذلك المساء. جعل يوحنا صلب يسوع متزامنًا مع ذبح الخراف في الهيكل.
إن يسوع يوحنا وعلى عكس الأناجيل الإزائية، هو المسيطر دائمًا، فعندما جاءت الجماعة التي كانت مع يهوذا للقبض عليه وعرّف عن نفسه، "رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ" (يوحنا 18: 5)، في إشارة إلى أن يسوع هو الذي سمح لهم بالقبض عليه. اختبر يسوع يوحنا صلبه بصفته تمجيد له، وهو في كامل سيطرته، فيسوع الإلهي، لا يمكن أن يتألم في عالم البشر. الصليب هو صلة الوصل بين النزول والصعود، والتقاء الأفقي بالعمودي. أعلن يسوع يوحنا ببساطة عند موته "قَدْ أُكْمِلَ" (النزول)، خلافًا لصرخة يسوع مرقص التي صرخ بها من الخيبة واليأس ("إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" مرقس 15: 34). لقد أُرسل إلى الأرض ليأتي بالنور والحق إلى العالم، وهذا "أُكْمِلَ". كان الصُّلْب عند يوحنا، وفي غياب العناصر التقليدية للآلام والموت بمنزلة وسيلة لإعادة يسوع إلى الآب.
اليهود في إنجيل يوحنا
يوصف إنجيل يوحنا غالبًا، وبأثر رجعي، بأنه أكثر الأناجيل معاداة للسامية. كان على جميع الأناجيل أن تعالج مشكلة أنه إذا كان يسوع هو المسيح، فلماذا لم يؤمن به جميع اليهود عندما كان على الأرض؟ ألقى الإنجيليون باللائمة بشكل رئيس على القيادة اليهودية (الفريسيين، والكتبة، والصدوقيين). اختزل يوحنا اليهود بشكل جماعي إلى قوة معارضة وشريرة طوال إنجيله، مستخدمًا عبارة "اليهود" البسيطة طوال الوقت. تظهر هذه العبارة 71 مرة في إنجيله.
يتمحور بناء يوحنا لشر اليهود حول كونهم من نسل أبيهم إبراهيم. أجاب يسوع في يوحنا أن الله هو أبوهم الحقيقي، لكن اليهود لم يتبعوه:
"فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كَانَ اللهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كَلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي. أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ. وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟ اَلَّذِي مِنَ اللهِ يَسْمَعُ كَلاَمَ اللهِ. لِذلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللهِ. فَأَجَاب الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَنًا: إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟" (يوحنا 8: 42-48)
ادعى يوحنا أن يسوع لم يكن لديه أي نية لإدراج اليهود في الخلاص، وفي الوقت نفسه لم يكن خلاص اليهود جزءًا من خُطَّة الله أيضًا، وعلى هذا، لم يقم يسوع في إنجيل يوحنا بأي طرد للأرواح الشريرة خلال خدمته، حيث ظهر دور الشيطان وحضوره في العالم عن طريق اليهود.
إن جدل يوحنا ضد اليهود ليس فريدًا من نوعه؛ فالجدل (آنذاك كما هو الحال الآن) كان الطريقة المعتادة التي يجادل بها الكتّاب وجهة نظر ضد وجهة نظر أخرى. حاول العديد من الباحثين إعادة خلق السياق التاريخي ليوحنا لمحاولة فهم وجهة نظره المتطرفة، ولدينا إحساس بأن يوحنا يبدو أنه يُظهر بعض المرارة ضد اليهودية وزملائه اليهود.
الفرضية السائدة هي أن يوحنا وجماعته طُردوا من جماعة اليهود، أو، على أقل تقدير، ربما تكون جماعته عانت من مضايقات من زملائه اليهود في حين ظلوا جزءًا من الجماعة. نشأ التوتر على الأرجح من مزاعم يوحنا الفريدة من نوعها مثل: يسوع سابق الوجود، حاضر عند الخلق (مشاركة هذا الحدث مع إله إسرائيل)، واستعارات "أَنَا هُوَ" التي أعطت يسوع مكانة متساوية مع الله. سيقنن ذلك فيمَا بعد مع تطور المفهوم المسيحي للثالوث في مجمع نيقية الأول عام 325 م، أما في اليهودية، فقد اقتصرت العبادة على إله إسرائيل.
ملكوت الله
كان على جميع الأناجيل أن تعالج مشكلة أنه على الرغم من أن يسوع قد بشر بقرب ملكوت الله خلال حياته، إلا أن الملكوت لم يتحقق. تبني الإنجيليون مفهومًا مبكرًا يُعرف باسم “παρουσία/ parousia” ("الظهور الثاني للمسيح")، فالمسيح، الذي هو الآن في السماء، سيعود قريبًا ويكمل تنبؤات الأنبياء للأيام الأخيرة، وإذا حددنا تاريخ يوحنا بنهاية القرن الأول الميلادي أو قرب نهايته، فإن حوالي70 سنة مرت منذ خدمة يسوع.
يوجد حديث ليسوع في إنجيل يوحنا 14 حيث قال: "فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ" (14: 2)، وأنه ذاهب إلى هناك لإعداد مكان للتلاميذ. يسوع عند يوحنا لن يعود جسديًا، حيث وعد التلاميذ بأنّه سيرسل المساعدة في صورة "البراقليط \ παράκλητος\Paraclete" وهي (كلمة يونانية تعني " المُعزي، أو المُحامي أو المدافع")، وهو مفهوم يوحنا لروح الله. وفر هذا الحضور للروح في الجماعة مفهومًا للباحثين يُعرف باسم "الأخرويَّات المحققة".
إن الأخرويَّات المحققة بناء يحاول تفسير لغة يوحنا على أنها ما يبدو تحول وجودي للإنسان الداخلي ("لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ")، وبعبارة أخرى، مع مرور الوقت وعدم مجيء الملكوت، أصبح "الملكوت" استعارة للطريقة التي يمكن للمؤمنين من خلالها استيعاب العناصر اللاهوتية في كل من تفكيرهم المفاهيمي وحياتهم اليومية، غالبًا ما توصف تعاليم إنجيل يوحنا بأنه مهتمة بشكل فريد بالخلاص الفردي وأقل اهتمامًا بالشأن الجماعي.
أقدم قطعة لدينا على الإطلاق من مخطوطة إنجيل، هي البردية 52 (الموجودة في المجموعة المصرية بمكتبة جون رايلاندز في مانشستر بإنجلترا) وهي من إنجيل يوحنا:
"إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي. قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: مَا هُوَ الْحَقُّ؟ وَلَمَّا قَالَ هذَا خَرَجَ أَيْضًا إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً" (يوحنا ١٨: ٣٧-٣٩)
لا يزل إنجيل يوحنا شائعًا في المسيحية الحديثة بسبب تلك الاقتباسات القوية. تتلخص عناصر إنجيل يوحنا في طرق بسيطة ومختصرة لإعلان "حقيقة" المسيحية: "لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ." (يوحنا 3: 16).