بدأ الإصلاح الديني في إنجلترا مع هنري الثامن (1509-1547م) واستمر متقطعاً على مراحل حتى أواخر القرن السادس عشر، ليفضي إلى الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية برئاسة البابا في روما. هكذا نشأت الكنيسة البروتستانتية في إنجلترا وأصبح العاهل الإنجليزي رأسها الأعلى. وكان من العواقب الأخرى حل الأديرة وإلغاء القداس واستعمال الإنجليزية في تأدية الشعائر وتلاوة الكتاب، واستبدال المذابح بموائد العشاء الرباني، والاستغناء عن العناصر الكاثوليكية المفرطة في الزخرفة والبهرج سواء ضمن المراسم أو داخل الكنائس نفسها. قبل أغلب الناس هذا التغيير، الأغنياء بفضل ما اكتسبوه من ثروات من أنقاض الكنيسة والناس العاديون لخشيتهم من بطش السلطات وفرض الغرامات إذا لم ينصاعوا للأوامر ويتجهوا للصلاة فيما أصبحت تعرف باسم الكنيسة الإنجليكية الجديدة. رغم ذلك لم يخلو الأمر من اعتراضات من جانب بعض الكاثوليك والبروتستانت الأكثر تطرفاً مثل الجماعات البوريتانية المتعددة التي اختارت السير في طريقها الخاص وأنشأت كنائسها الخاصة التي آثرت التمسك الحرفي بأفكار المصلحين من أمثال جون كالفن (1509-1564م).
هنري الثامن والانفصال عن الكنيسة في روما
ترجع أصول الإصلاح الديني في إنجلترا إلى السياسة وتعود بصفة خاصة إلى عهد الملك هنري السابع (1485-1509م). كان هنري يرتب لكي يزوج ابنه الأكبر آرثر (1486م) من الأميرة الإسبانية كاثرين من أراغون (1485-1536)، ابنة فرديناند الثاني ملك أراغون (1479-1516م). تم الزواج فعلاً في 1501م، لكن لسوء الحظ توفى الزوج آرثر في العام التالي وعمره لا يتجاوز الخامسة عشر. وفي هذه الأثناء كان هنري السابع حريصاً أشد الحرص على إبقاء العلاقات الودية مع إسبانيا ومن ثم سعى، بعد الحصول على إذن خاص من البابا، لكي يخطب الأرملة الصغيرة كاثرين لابنه الثاني الأمير هنري (1491م). ثم توفي الملك هنري السابع في أبريل 1509م وخلفه ابنه الأمير هنري على العرش. ووفقاً للترتيبات، تزوج هنري من كاثرين في 11 يونيو وتم تتويجه تحت اسم الملك هنري الثامن بكنيسة وستمنستر في 24 يونيو 1509م.
في البداية كان الزواج سعيداً وأثمر عن ستة أطفال لكنهم كلهم عدا واحد ماتوا صغاراً ولم ينجو منهم سوى ماري، التي ولدت في 18 فبراير 1516م. والآن بعدما بلغت الأربعين، بدت فرص كاثرين ضعيفة وشحيحة لكي تنجب للملك الابن الذكر العفي القوي الذي ظل يحلم به. بالتالي اتجهت أنظار هنري للبحث عن زوجة ثانية أكثر شباباً وحيوية، مع العلم أنه كان لهنري ابن غير شرعي يدعى هنري فيتزروي دوق ريتشموند (1519م) من محظية تدعى إليزابيث بلونت. بيد أن ذلك لم يكن أبداً التقليد المرعي والمتبع لملك يريد وريثاً شرعياً يسلم الجميع بحقه الشرعي في خلافته. حينئذ استقرت عواطف الملك على إحدى وصيفات القصر وتدعى آن بولين (1501-1536م). لكن آن أصرت على أن تتزوج شرعياً من الملك قبل حتى التفكير في إنجاب أي أطفال. هكذا أصبحت مشكلة هنري تكمن في إيجاد طريقة للتخلص من زيجة كاثرين، فيما اشتهرت في ذلك الزمان باسم ’المعضلة الكبرى‘. ومن هذه النقطة انطلقت عجلة الإصلاح الديني في إنجلترا بلا رجعة.
حل ’المعضلة الكبرى‘
ما كانت الكنيسة الكاثوليكية تجيز الطلاق وبالتالي كان يتعين على هنري الثامن التفكير في حجة مختلقة لكي يلغي زواجه من منطلق بطلان انعقاده من الأصل. بناء عليه أرسل خطاباً إلى البابا مفاده أن عدم إنجاب وريث ذكر كان بمثابة عقاباً من الله لزواج هنري من زوجة شقيقه المتوفي، وهي حجة لها ما يؤيدها في العهد القديم. فثمة تحريم في سفر اللاويين يقرأ كالآتي:
وَإِذَا أَخَذَ رَجُلٌ امْرَأَةَ أَخِيهِ، فَذلِكَ نَجَاسَةٌ. قَدْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ. يَكُونَانِ عَقِيمَيْنِ." (لا 20، 21).
وبناء عليه تمنى الملك على البابا أن يلغي الزواج. لكن لسوء حظ هنري كان البابا كليمنت السابع (1523-1534م) حريصاً على إبقاء صلة الود مع أقوى حاكم في أوروبا في ذلك الزمان، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة تشارلز الخامس الإسباني (1519-1556م)، الذي كان كذلك ابن أخت الملكة كاثرين. باختصار، ما كان البابا بحاجة إلى دعم سياسي أو مالي من إنجلترا وما كان بالإمكان ممارسة أي نوع من الضغوط عليه. أكثر من ذلك، كانت هناك شبهة في أن يكون كاثرين وآرثر، بالنظر إلى صغر سنهما في ذلك الوقت، قد تضاجعا معاً وبالتالي لا يسري تحريم سفر اللاويين في هذه الحالة. في كل الأحوال، كان ثمة فقرة في سفر التثنية تناقضت على ما يبدو مع فقرة سفر اللاويين:
إِذَا سَكَنَ إِخْوَةٌ مَعًا وَمَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ، فَلاَ تَصِرِ امْرَأَةُ الْمَيْتِ إِلَى خَارِجٍ لِرَجُل أَجْنَبِيٍّ. أَخُو زَوْجِهَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَيَتَّخِذُهَا لِنَفْسِهِ زَوْجَةً، وَيَقُومُ لَهَا بِوَاجِبِ أَخِي الزَّوْجِ." (سفر التثنية، الفصل 25، 5)
في الحد الأدنى أوفد البابا الكاردينال لورينزو كامبيجيو إلى إنجلترا للتحقيق في الأمر وتشكيل لجنة خاصة في يونيو 1529م، لكن لم يتم التوصل إلى قرار. ولإدراكه أنه سيضطر عاجلاً أو آجلاً لتدبر أمره بنفسه، أقدم هنري بداية على إبعاد الملكة كاثرين بصفة دائمة عن ابنتها ماري، وأمر بتنقيلها عبر أرجاء المملكة بين عدة قصور نائية. في هذه الأثناء كان هنري يعيش مع آن بولين (لكنهما لم يتضاجعا بعد). ثم في وقت ما في ديسمبر 1532م، ظناً منها أن إنجاب طفل قد يكون الطريق الأمثل لإزاحة غريمتها كاثرين من طريقها، قررت آن أن تضاجع الملك، وحملت منه فعلاً.
الآن أصبح الملك بحاجة ماسة لإلغاء زواجه من كاثرين وكلف بهذه المهمة وزيره الأول، رئيس أساقفة يورك الكاردينال توماس وولسي (1473-1530م). لكن وولسي لم ينجح في أن يحقق لملكه ما أراد، ليتم استبداله أولاً بالسير توماس مور (1478-1535م) الذي اشتهر بوقوفه ضد خطط الملك، ومن بعده بتوماس كرومويل (1485-1540م). بحلول ذلك الوقت كان ووسلي وهنري قد وضعا معاً بالفعل خطة متطرفة لفصل الكنيسة في إنجلترا عن روما الكاثوليكية وتنصيب الملك بصفته رأس الكنيسة الإنجليزية. عندئذ سيستطيع هنري أن يهب لنفسه إلغاء زواجه الأول. حتى رغم دراسته اللاهوت، كان كل ما شغل هنري الثامن عند هذه المرحلة هو كيف يسيطر على الكنيسة لا كيف يصلحها. لذلك ظل هنري متمسكاً بالممارسات الكاثوليكية التقليدية مثل القداس والاعتراف والعزوبة الكتابية، كما يتضح في قانون المواد الست لسنة 1539م. لكن الخلاف كان يتحول بسرعة مطردة إلى انقسام أوسع وأعمق. ففي 1532 صدر قانون منع ضريبة الثمار الأولى وأدى إلى تقليص تدفق الأموال التي دأبت الكنيسة الإنجليزية على تحويلها إلى الباباوية. ثم في 1533م أشهر قانون منع الطعون العاهل الإنجليزي بصفته صاحب السلطة العليا الآن بصدد المسائل القانونية كافة (العلمانية والكنسية) وليس البابا.
وفي مايو 1533م ألغى رئيس أساقفة كانتربري، توماس كرانمر (1533-1555م)، رسمياً زيجة هنري الأولى. وكان هذا الإلغاء وسن البرلمان لقانون الخلافة (30 أبريل 1534م) بمثابة الإقرار بعدم شرعية ماري ابنة كاثرين. ورداً على ذلك أصدر البابا مرسوماً بطرد هنري من العقيدة المسيحية واعتباره مرتداً بسبب أفعاله تلك، لكن بحلول هذا الوقت كانت المسألة برمتها قد اتخذت بعداً تجاوز إلى حد بعيد مجرد الخلاف حول موضوع الزيجات الملكية. ففي 28 نوفمبر 1534م تم تمرير قانون السيادة ونص على أن هنري، وكل الملوك الإنجليز اللاحقين، ما كانت تعلوهم سوى سلطة واحدة: الله وحده. ثم مرر الوزير الأول توماس كرومويل من البرلمان قانون الخيانة لسنة 1534م وحرم بمقتضاه على الناس حتى التطرق بالحديث والانتقاد لملكهم أو سياساته.
توماس كرومويل يدشن الإصلاح الديني
تقلد كرومويل العديد من الألقاب والمناصب العليا ومن ضمنها دور النائب العام، أو من ينوب عن الملك فيما يتعلق بشؤون الكنيسة. وقد نال هذا المنصب في يناير 1535م حتى يتسنى له تطبيق إصلاحاته الكنسية، ثم توسع في استخدام صلاحياته لأبعد الحدود المتصورة وظل يتحين الفرص لكي يتدخل بصفة يومية في كل كبيرة وصغيرة من شؤون الكنيسة (مثل تعيين القساوسة المتطرفين وطباعة كتب العبادات المتطرفة وإنشاء شبكة من المخبرين). أصدر كرومويل كتابه المعروف باسم ’الأوامر‘ في أغسطس 1536م وهو عبارة عن مجموعة من التوصيات حول ما كان ينبغي على رجال الدين تلقينه للعامة مثل إعطاء التفسيرات اللائقة حول الوصايا العشر والخطايا السبع المميتة. ثم اكتسبت عملية الإصلاح الديني في إنجلترا زخماً قوياً فيما اشتهرت باسم ’مواد كرومويل العشرة‘ المنشورة في 1536م والمستلهمة من كتابات مارتن لوثر (1483-1546م)، التي رفضت الأسرار السبعة المقدسة الكاثوليكية ولم تبقي منها سوى على ثلاثة (المعمودية والتوبة والقربان المقدس). وأتبع ذلك ببيان للمذهب الجديد ضمنه كتاب ’الأسقف‘، المنشور في يوليو 1537م.
الآن مضى الإصلاح مسرعاً على قدم وساق مدفوعاً بمشروع سنة 1536م الذي أتم عملية إخلاء وإغلاق الأديرة الكاثوليكية، الشهير باسم ’مشروع قانون حل الأديرة‘. كان العذر الرسمي أن الأديرة لم تعد لائقة بعد لروح العصر، إذ كانت تعج بالرهبان والراهبات الفاسدين والمنحلين أخلاقياً ولم تسعى للتخفيف عن الفقراء بقدر مساعيها النهمة لكنز واحتكار الثروات. استهل كرومويل حملته بالأديرة الصغيرة وحرص على أن تسير العملية كلها بسلاسة وهدوء عن طريق إجزال الهبات والعطايا والرشاوى السخية لكبار الرهبان والمقدمين ورؤساء الأديرة. وأجريت عملية إعادة توزيع لأصول وتركات هذه الأديرة الصغيرة على أنصار التاج وهنري، فيما اعتبر بمثابة الدافع الرئيسي من وراء المشروع كله. ثم ثبت أن العملية غير قابلة للتوقيف حتى رغم بعض الاحتجاجات، خاصة تمرد حج النعمة في 1536م الذي شارك فيه نحو 40.000 منشق نجحوا في إحكام سيطرتهم على مدينة يورك، لكنهم كانوا يحتجون في الوقت نفسه اعتراضاً على قضايا عامة أخرى من بينها الحكومة والاقتصاد وليس ضد التغييرات الدينية فحسب. في النهاية تم تفريق التمرد سلمياً لكن فيما بعد طالت يد العدالة الباطشة حوالي 200 شخص من زعماء الفتنة وأعدمتهم.
بعدئذ طبع كرومويل نسخة أشد تطرفاً من كتاب ’الأوامر‘ صدرت في 1538م، أوصى فيها بإبعاد رفات القديسين من الكنائس ومنع زيارة أضرحتهم والاحتفاظ بسجلات لجميع المواليد والزيجات والوفيات في كل أبرشية، فيما ثبتت قيمته العظيمة للمؤرخين المحليين في كل العصور اللاحقة.
انقسمت أعداد غفيرة من رعية هنري بين فريقين، من جهة هؤلاء غير المكترثين بهذه التغييرات وفي المقابل هؤلاء الراغبون في إصلاح الكنيسة ومن ثم استمرار حركة الإصلاح البروتستانتي التي كانت تجتاح أوروبا حينذاك. رأى كثيرون أن الكنيسة كانت فاحشة الثراء ومليئة برجال دين يسيئون استغلال مناصبهم أبشع استغلال. في المقابل أقر آخرون ببساطة وجهات نظر رؤسائهم الاجتماعيين ولم يبالوا كثيراً بما كان يقال أو يجري فعلاً داخل الكنيسة طالما ظلت الأخيرة تقدم لهم نوعاً ما من الخدمات. وظهرت الانقسامات حول الإصلاحات أيضاً وسط الهرم الإداري الكنسي ذاته، حيث تزعم توماس كرانمر الفصيل الأكثر تطرفاً بينما سلم المحافظون الكاثوليك راية القيادة لأسقف وينشستر، ستيفن جاردينر.
ثمة تحرك آخر باتجاه الاستقلال جاء في صورة موافقة الملك على ترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية في 1539م. ثم أدى قانون سنة 1539م الصادر من البرلمان إلى إغلاق جميع الأديرة بصرف النظر عن أحجامها أو مداخيلها. كل من قاوم أُعدم. قاوم رؤساء أديرة غلاستونبري وكولشيستر وريدينج وووبورن وشنقوا جميعاً. كان دير والثام أبي في إسكس هو آخر دير يغلق أبوابه في مارس 1540م. وكنتيجة لحل الأديرة، ملء هنري خزائن الدولة بثروات طائلة تخطت 1.3 مليون جنيه (أكثر من 500 مليون اليوم). تلك كانت البداية الحقيقية للإصلاح الديني الإنجليزي في نظر العامة، حيث كان يوجد زهاء 800 دير تتدخل في صميم تفاصيل حياة الناس العاديين اليومية منذ قرون طويلة، تساعد الفقراء وتصرف الأدوية وتوفر فرص العمل وتقدم الإرشاد الروحي من ضمن خدمات كثيرة أخرى. مع ذلك، كان هناك المزيد من التغييرات الأشد شراسة في الانتظار.
إدوارد السادس والمزيد من الإصلاحات
خلف هنري على العرش ابنه من زوجته الثالثة جين سيمور (1509-1537م) الملقب إدوارد السادس ملك إنجلترا (1547-1553م). واستمرت عملية الإصلاح تجري بقوة تحت رعاية إدوارد وتوماس كرانمر والوصيان على العرش إدوارد سيمور، دوق سومرست (1500-1552م)، وجون دادلي، إيرل نورثمبرلاند (1504-1553م)، وشهدت حتى تغييرات أكثر تطرفاً مما وقع في السابق. في 1547م أصدر كرانمر ما أسماه ’كتاب العظات‘، وهو عبارة عن مجموعة من الخطب المعدة لاستخدامها في العبادات الكنسية، وألحقه بمؤلفه الجديد "كتاب صلاة الجماعة"، الذي صدر بالإنجليزية في 1549م وأصبح إلزامياً بموجب قانون التوحيد الصادر في العام نفسه. ثم أدخل عليهما ’كتاب الصلاة‘ تعديلات أكثر تطرفاً وبعيدة عن الكاثوليكية في 1552م حين رُفضت فكرة استحالة الشكلين الكاثوليكية (القائلة بتحول عناصر قربانية مثل الخبز والخمر إلى جسد ودم عيسى المسيح).
بحلول ذلك الوقت اكتسب مصطلح ’البروتستانتية‘ (ويعني الاحتجاجية) انتشاراً واسعاً للمرة الأولى. أزيلت جميع الأيقونات والجداريات ونوافذ الزجاج المزخرف من الكنائس، وأصبحت الصلوات تقام الآن باللغة الإنجليزية، لا اللاتينية. واستبدلت المذابح الكاثوليكية بموائد العشاء الرباني الجماعية. منعت عبادة القديسين. وسمح الآن للقساوسة بالزواج. حُلت الجمعيات الدينية، وألغيت الزوايا الوقفية حيث اعتاد الكهنة إقامة الصلوات ترحماً على أرواح الموتى، وتمت مصادرة أراضي الكنيسة. ثم ذهبت الثروات المجمعة مباشرة إلى جيوب النبلاء.
كما حدث مع حل الأديرة، لم يخلو الأمر من الاعتراض والاحتجاج وأعمال العنف. ومرة أخرى، طفحت معاناة الكثيرين من سوء الوضع الاقتصادي وتذمرهم من التغييرات الفجائية والمتطرفة في الحياة الأبرشية التقليدية في صورة تمرد وعنف، هذه المرة في كورنوال ثم في نورفولك عام 1549م. كان أشدها خطورة تمرد كيت، نسبة إلى قائده روبرت كيت، لكن في أغسطس تم سحقه بلا رحمة بمذبحة للمتمردين في دوسينديل. ومضى الإصلاح بلا هوادة في حظر المزيد من الممارسات ’الباباوية‘ مثل إلغاء العناصر الأكثر بهرجاً في الرداء الكهنوتي وإلغاء الصلاة على الميت.
ماري الأولى ونكسة الإصلاح
توفى إدوارد السادس عام 1553م متأثراً بمرض السل ولم يتجاوز الخمسة عشر ربيعاً وخلفته أخته غير الشقيقة ماري الأولى ملكة إنجلترا (1553-1558م). حينذاك خلفت محاولة فاشلة لتنصيب ابنة عم إدوارد البروتستانتية الليدي جين جراي (1537-1554م) مكانه على العرش كارثة لكل من تورط فيها. كانت ماري كاثوليكية متزمتة وعازمة على نقض الإصلاح، وأصدرت قانون البطلان الأول في أكتوبر 1553م الذي نقض كل التشريعات ذات الصبغة الدينية من حقبة إدوارد السادس. ثم أصدرت قانون البطلان الثاني في يناير 1555م الذي ألغى كل التشريعات الصادرة بعد 1529م بخصوص أمور الدين. وكان قانون السيادة من ضمن هذه التشريعات الملغاة، وبالتالي عاد البابا أخيراً وبشكل رسمي باعتباره رأس الكنيسة الإنجليزية من جديد.
استمدت الملكة كنيتها ’ماري الدموية‘ من حرق 287 شهيد بروتستانتي في المحرقة خلال عهدها، من ضمنهم توماس كرانمر في مارس 1556م. ومرة أخرى، لم يكترث العامة كثيراً إزاء هذه التغييرات الكنسية لكن نبلاءهم بالتأكيد فعلوا في اعتبار ما كسبوه من ثروات طائلة كنتيجة للسياسات الجديدة، تماماً مثلما حدث مع حل الأديرة من قبل. لكن طلت برأسها مشكلة في زواج ماري المقترح أو الفعلي حينئذ من الأمير الكاثوليكي فيليب الإسباني (1527-1598م)، بالنظر إلى خشية الكثيرين من ابتلاع إنجلترا ضمن الإمبراطورية الإسبانية فاحشة الثراء والقوة حينذاك، وهو الشعور الذي غذى تمرد وايت في كينت في يناير 1554م. كان ثمة تداخل يتشكل بين الإصلاح الديني والمشاعر الوطنية الإنجليزية. في العلن أراد المتمردون إفشال ’االزيجة الإسبانية‘، لكنهم سراً ربما كانوا يريدون أيضاً استبدال ماري بأختها البروتستانتية غير الشقيقة إليزابيث. وكما بينت الأحداث التالية، تكفل السرطان بمهمة إزاحة ماري عن العرش وأصبح عهدها مجرد حجر عثرة صغير على طريق الإصلاح الديني الممتد. ومن سيخلف ماري لن يدخر جهداً لاستئنافه مجدداً، وسيمضي فيه هذه المرة لأبعد مدى متصور.
إليزابيث الأولى وإصلاحات أكثر من ذي قبل
في 1558م خلفت إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا (1558-1603م) أختها غير الشقيقة ماري، وشرعت الملكة البروتستانتية الجديدة في استعادة الكنيسة الإنجليزية إلى سابق عهدها الإصلاحي كما كانت في عهد الملك إدوارد السادس. بيد أن المتشددين على كلا الجانبين البروتستانتي والكاثوليكي لم تعجبهم برجماتية إليزابيث حين انتهجت مقاربة أكثر وسطية راقت للسواد الأعظم من رعاياها غير المتحمسين أصلاً لعملية الإصلاح. منحت إليزابيث المتشددين حرية أكبر لممارسة معتقداتهم من دون تدخل، حتى عندما حظر البابا الملكة من الكنيسة بتهمة الردة في فبراير 1570م. كانت إليزابيث نشطة بالخارج أيضاً. حاولت فرض البروتستانتية في إيرلندا الكاثوليكية، لكن لم يؤدي ذلك سوى إلى ثورات متكررة (1569-1573، 1579-1583، 1595-1598م) بدعم وتحريض مادي من إسبانيا في معظم الأحيان. كما أرسلت الملكة المال والسلاح إلى البروتستانتيين الفرنسيين في فرنسا والمعونة المالية للبروتستانتيين في هولندا.
واجهت إليزابيث والبروتستانتية تهديدين خارجيين تمثلا في ماري، ملكة الأسكتلنديين (1542-1567م) وفيليب الثاني ملك إسبانيا. كانت ماري الكاثوليكية قد فرت إلى إسكتلندا وادعت من هناك بحقها في العرش الإنجليزي بذريعة أنها حفيدة مارجريت تيودور، أخت هنري الثامن. وكان فيليب الثاني هو الحاكم الكاثوليكي الأقوى في أوروبا وبدا عازماً على توسيع الإمبراطورية الإسبانية. أصبح كلا هذين العاهلين بمثابة رأسي حربة للكاثوليك الإنجليز الراغبين في التخلص من إليزابيث والبروتستانتية دفعة واحدة. كانت غالبية الكاثوليكيين ترى في إليزابيث ملكة غير شرعية لأنهم لم يعترفوا أصلاً بطلاق والدها من زوجته الأولى كاثرين من أراغون. لذلك وضعت ماري قيد الإقامة الجبرية في قصرها، ثم أعدمت في 8 فبراير 1587م بعدما ثبت تورطها في التآمر ضد إليزابيث. ثم جاءت الضربة القاضية لتطلعات فيليب الإمبراطورية بهزيمة الأرمادا الإسبانية التي حاولت غزو إنجلترا في 1588م.
التسوية الدينية الإليزابيثية
جاءت القفزة التالية للأمام فيما يخص الإصلاح الديني فيما عرفت التسوية الدينية الإليزابيثية، وهي عبارة عن مجموعة من القوانين والقرارات التي صدرت بين عامي 1558-1563م. لقد أعاد قانون السيادة (أبريل 1559م) العاهل الإنجليزي ثانية بصفته رأس الكنيسة. وأظهرت الملكة بعض المرونة بشأن الصياغة لتكتفي بوصف نفسها ’الحاكم الأعلى‘ للكنيسة بدلاً من ’الرأس الأعلى‘، وبالتالي حققت لنفسها قبولاً أوسع لدى البروتستانتيين الذين لم ترق لهم فكرة أن تشغل امرأة ذلك المنصب. وبخلاف الحال في دول بروتستانتية أخرى، تم الإبقاء على الهيكل الكنسي الكاثوليكي القديم من أسفل منصب صاحب السيادة عبر تنظيم الأساقفة في تسلسل هرمي وتعيينهم بمعرفة العاهل.
حدد قانون التوحيد لسنة 1559 الصادر في عهد ماري شكل الكنائس والعبادات، لتصبح الصلاة في الكنيسة إلزامية وتفرض غرامة على المتقاعسين (كانت تعطى حينذاك للفقراء). وكل من رفض حضور الصلوات في الكنيسة كان يوصم عاصي. ثانياً، حظر الحضور إلى القداس الكاثوليكي وكل من ثبت تورطه دفع غرامة ضخمة. والكاهن الذي يثبت تورطه في إمامة قداس قد يواجه عقوبة الإعدام.
’الأوامر الملكية‘ هي عبارة عن مجموعة من 57 لائحة تُعنى بالأمور الكنسية ألزمت الوعاظ بالحصول الآن على رخصة وأوجبت أن يتوفر لكل كنيسة كتاب مقدس باللغة الإنجليزية وحظرت زيارة الأضرحة، من جملة أوامر ونواهي كثيرة أخرى. استؤنف العمل بكتاب صلاة الجماعة لتوماس كرانمر (مزيج وسطي من طبعتي 49 و52). يتطرق كتاب الصلاة بشكل أساسي لمسألة الخبز والخمر في تقليد العشاء الرباني، وبدلاً من معاملة هذه الأشياء باعتبارها تتحول إلى جسد ودم السيد المسيح حين مباركتها من قبل رجل الدين الكاثوليكي، اكتفى الواعظ البروتستانتي بتشجيع المؤمن على اعتبارها مجرد تذكرة بتضحيات المسيح. وفي النهاية سعت ’المواد التسعة وثلاثين‘ لسنة 1563 (صدرت في قانون في 1571م) إلى تعريف البروتستانتية الإنجليزية بطريقة صريحة وقاطعة الدلالة، فيما أصبحت تعرف اليوم ’الإنجليكية‘
الانقسام الكنسي
كان الاعتدال الذي اتسمت به التسوية لا يروق سواء للكاثوليك المتطرفين أو البروتستانت المتطرفين، خاصة الأتباع الأكثر حرفية للكالفينية كما قدمها المصلح الفرنسي جون كالفين. هذه المجموعة الأخيرة من المتطرفين عرفت باسم البوريتانيين الذين حققوا انتشاراً واسعاً من منتصف ستينات القرن السادس عشر ميلادي على خلفية اعتقادهم بأسبقية الإيمان على عيش ’حياة تقية‘ من أجل بلوغ الخلاص الروحاني. أراد بعض البوريتانيين- بالأخص المشيخيين والانفصاليين- إلغاء الهرمية الكنسية والتركيز على تفسير أكثر حرفية للكتاب المقدس؛ وفي النهاية سينشئون كنائسهم المنفصلة التي اعتبروها مستقلة عن أي سلطة ملكية وعن الكنيسة الإنجليكية.
انقسم أغلب الناس بين الاعتقاد بالكاثوليكية أو الاعتقاد بالبروتستانتية، واعتنق البعض درجات متفاوتة من وجهتي النظر المتطرفتين على طرفي النقيض، ويرجح أن أعداد أكبر شعرت بارتياح كاف عند نقطة التقاطع الوسطية المعتدلة التي جسدتها الإنجليكية. هكذا انجذب الكثيرون لعناصر من كلا طرفي النقيض مثل الإعجاب بالزينة البديعة للصليب المصنوع من الذهب وفي الوقت نفسه تفضيل استعمال الإنجليزية في تأدية العبادات. ظهرت حينئذ درجة من التسامح وكما صرحت الملكة نفسها، بقيت الأفكار الخاصة خاصة، لأنها "لن تفتش في نفس أحد" (وودوارد، 171). وجرت حركة تنقلات للمسؤولين عندما أبعدت إليزابيث من تبقى من الأساقفة الموالين للكاثوليكية، وبموجب قانون المقايضة لسنة 1559م صادرت ممتلكاتهم (أو هددت بذلك إذا لم يلزموا الصف).
كنتيجة للتسوية الإليزابيثية استقال فعلاً حوالي 400 كاهن. لكن استمر أيضاً وعاظ كثر ببساطة كما من قبل، إما في السر أو أملاً في ألا تلاحظهم عيون السلطات- الذين في بعض الحالات التف حولهم المتعاطفون على المستوى المحلي. لكن الإصلاح كان بلا رجعة الآن. إذ رغم ردود الفعل القوية، والتغييرات المتطرفة والعنف الملحوظ في بعض الأقطار الأوروبية الأخرى التي خاضت تجاربها الخاصة من الإصلاح الديني، نجحت إنجلترا في تخطي عقبة صعبة وخطيرة وإنشاء نسختها الخاصة الفريدة والباقية من البروتستانتية.