الأسطورة

تعريف

Joshua J. Mark
بواسطة ، تمت ترجمته بواسطة عبد المجيد الشهاوي
نُشر في 31 October 2018
استمع إلى هذه المقالة
X
طباعة المقالة
Bronze head of Hypnos (by Carole Raddato, CC BY-SA)
رأس برونزي لهيبنوس
Carole Raddato (CC BY-SA)

الأسطورة جزء من كل ثقافة في العالم تساعد في تفسير الظواهر الطبيعية، من أين جاء القوم وكيف نشأت حضارتهم، ولماذا تجري أحوال الناس وسنن الكون كما هي جارية. الأسطورة بطبيعتها تبعث الطمأنينة، عبر إضفاء شعوراً بالنظام والمعنى على عالم تسوده الفوضى أحياناً.

تُعنى دراسة الأسطورة (’أُفعولة‘ والجمع ’أَفَاعيل‘ من الثلاثي ’سَطَرَ‘ على وزن (فَعَلَ) ومعناه ’نَظَمَ‘ شيئاً أو فكرةً ما في صورة أو ترتيب معين بوسائل الرسم أو النقش أو النحت أو الكتابة أو خلافه، وصيغة المبالغة للإشارة إلى الإفراط وبالتالي الاصطناع وعدم الأهلية للتصديق.) باستعراض وتفسير المرويات أو الخرافات المقدسة غالباً لدى ثقافة ما والمسماة أساطير أو مجموعة من القصص من هذا القبيل تتطرق لشتى جوانب الحالة الإنسانية: الخير والشر؛ معنى المعاناة؛ أصول البشر؛ أصل أسماء الأماكن والحيوانات والقيم الثقافية والعادات والتقاليد؛ معنى الحياة والموت؛ الحياة الآخرة؛ والقصص السماوية حول الآلهة المتعددة أو الإله الواحد. باختصار، الأساطير تعبر عن المعتقدات والقيم السائدة لدى ثقافة معينة حول هذه المواضيع.

تحكي الأساطير القصص حول السلف الصالح وأصل البشر والعالم، والآلهة، والكائنات فوق الطبيعية (الملائكة والجان والحور العين) والأبطال ذوي القدرات فوق البشرية، في العادة كهبة إلهية (كما في حالة الأسطورة اليونانية عن هيراكليس أو بيرسيوس). وتصف الأساطير أيضاً منابع العادات والتقاليد المتوارثة منذ أزمنة بعيدة أو أسباب التباين فيما بينها أو تفسر حوادث طبيعية مثل الشروق والغروب، ودورة القمر والفصول، أو العواصف الرعدية والبرق. يعرف الباحثان ماريا ليتش وجيروم فرايد الأسطورة على النحو التالي:

[الأسطورة هي] قصة تُعرض كما لو كانت أحداثها قد وقعت بالفعل في عصر سابق، تفسر السنن الكونية والتقاليد فوق الطبيعية لقوم، وآلهتهم وأبطالهم وسماتهم الثقافية ومعتقداتهم الدينية الخ. يقول السير جي إل غوم إن الغرض من الأسطورة هو التفسير، لأن الأساطير تفسر الأمور في صورة "علم العصر ما قبل العلمي." وهكذا تحكي الأساطير عن خلق الإنسان والحيوانات والتضاريس؛ تحكي لماذا اختص حيوان معين بخصائصه (مثلاً، لماذا الخفاش أعمى أو يطير ليلاً فقط)، لماذا أو كيف ظهرت إلى الوجود ظواهر طبيعية معينة (مثلاً، لماذا يظهر قوس قزح أو كيف تشكلت كوكبة الجبار (الجوزاء) في السماء)، أو كيف ولماذا بدأت الطقوس والمراسم ولماذا هي مستمرة. (778)

وكما قال عالم النفس كارل يونغ في القرن الماضي، تشكل الأسطورة جانباً لا غنى عنه للنفس البشرية التي تنشد دوماً المعنى والنظام في عالم يكشف عن نفسه غالباً في صورة فوضوية وبلا معنى.

لقد شكلت الأساطير جزءاً محورياً في كل حضارة معلومة حول العالم. سنجد الرسومات على جدران الكهوف والنقوش على الأحجار والمقابر والآثار من حقبة ما قبل التاريخ كلها تشير إلى أن البشر كانوا قبل زمن طويل من تدوين أساطيرهم بالكلمات قد طوروا بالفعل منظومة من المعتقدات معادلة لتعريف ’الأسطورة‘ كما أورده ليتش وفرايد. وكما قال عالم النفس كارل يونغ في القرن الماضي، تشكل الأسطورة جانباً لا غنى عنه للنفس البشرية التي تنشد دوماً المعنى والنظام في عالم يكشف عن نفسه غالباً في صورة فوضوية وبلا معنى. ويكتب يونغ:

النفس، كانعكاس للعالم والإنسان، هي شيء على قدر من التعقيد اللامحدود بما لا يمكن معه ملاحظتها ودراستها إلا من زوايا عديدة لا حصر لها. وهي تواجهنا بالمشكلة نفسها التي يطرحها علينا العالم: لأن الدراسة المنظمة للعالم تقع خارج قدراتنا، لذا علينا أن نرتضي بمجرد القواعد البديهية وبالأوجه ذات الفائدة الخاصة لنا. كل منا يصنع لنفسه شرنقته الخاصة به من العالم وينسج لنفسه منظومته الخاصة، غالباً ذات مقصورات محكمة الغلق، لذلك بمضي الزمن يُهيئ له أنه قد استوعب معنى وبنيان الكل. لكن المحدود لا يمكنه أبداً استيعاب اللامحدود. (23-24)

اللامحدود الذي يشير إليه يونغ هو الصفة الروحية للغيب والمقدس والقادر التي تفسر الإغراء الكامن في المرويات والموضوعات الأسطورية لأنها تُضفي على الوجود البشري المعنى والغاية. فتصور شيئاً ما أكبر وأكثر قدرة من ذات المرء يعطي المرء أمل الإرشاد والحماية والخلاص في عالم متقلب. وفقاً إلى ليتش وفرايد، يمثل الغيب والمقدس والقادر "تصوراً في ذهن البشر من قديم الزمان: رد فعل نفساني تجاه الكون والبيئة ترتكز عليه كل الأديان." (777)

Ra Travelling Through the Underworld
رع مسافراً عبر العالم السفلي
Unknown Artist (Public Domain)

ولا ننسى أن ما نسميها اليوم "أساطير" كانت هي نفسها أديان الماضي القديم. إذ كانت القصص المؤلف منها التراث الأسطوري القديم تخدم نفس الغرض لأقوام ذلك الزمان مثل قصص الكتب المقدسة لشعوب هذه الأيام: كانت تفسر لهم وتطمئنهم وترشدهم، وتمدهم كذلك بشعور الاتحاد والتماسك والحماية والعزة لجماعة المؤمنين بها.

أنواع الأسطورة

يذكر الباحث جوزيف كامبل، الذي اشتهر عنه الدعوة لدراسة الأساطير، كيف تشكل الأساطير الطبقة التحتية الصلبة لكل حضارة والأساس العميق للوعي لدى كل فرد. في مؤلفه الريادي، "بطل بألف وجه"، يناقش ما أسماها "رحلة البطل"، حيث التشابهات في الموضوع والشخصيات والغرض والتطوير السردي للأساطير من الثقافات المختلفة، في أزمنة مختلفة، حول العالم وطوال التاريخ. يكتب كامبل:

ما سر الرؤيا الأبدية؟ من أين تفتقت من أعماق المخيلة؟ لماذا الأساطير في كل مكان واحدة، لكن بأسماء وأزياء مختلفة؟ وماذا تعلمنا؟ (4)

وفي الختام يجيب كامبل بأن الأساطير تعلمنا المعنى. الأساطير تفسر للمؤمن سر حياته وتزيده قوة وتمنحه إحساساً بالاستقرار وترتقي به من وجوده الدنيوي إلى آخر مشبع بالمعنى الأبدي والخالد. الأسطورة، بطبيعتها، تفسر الظواهر أو العادات أو أسماء الأماكن أو التكوينات الجيولوجية لكنها تستطيع أيضاً الارتقاء بحدث ماضي إلى ملحمة وحتى إلى دلالة فوق طبيعية وتوفر، وهو الأكثر أهمية، القدوة الحسنة لرحلة كل فرد منا عبر الحياة.

هناك العديد من أنواع الأساطير المختلفة لكننا، مبدئياً، نستطيع تجميعها في ثلاثة:

  • الأساطير السببية
  • الأساطير التاريخية
  • الأساطير النفسية

الأساطير السببية تفسر لماذا يكون شيئاً معيناً بالطريقة التي هو كائن عليها وكيف ظهر إلى الوجود. وعادةً يُعرف هذا النوع من الأسطورة باسم قصة المنشأ. على سبيل المثال، تبدو شجرة الجميز في الأساطير المصرية بالطريقة التي هي كائنة عليها لأنها سكن لسيدة الجميز، الإلهة حتحور. وفي الأساطير الإسكندنافية، يولد الرعد من السرعة المدوية لعجلة ثور الأسطورية عبر السماوات. الأساطير السببية تعطي إجابات للأسئلة حول الطريقة الكائن عليها العالم- كما في قصة الأساطير اليونانية عن صندوق باندورا التي تشرح كيف انتشر الشر والشقاء في العالم- أو كيف ظهرت مؤسسة معينة إلى الوجود- كما في الأسطورة الصينية عن الإلهة نوا التي ظلت تخلق البشر المرة تلو المرة تلو الأخرى حتى أنهكها التعب لتؤسس ممارسة الزواج لكي يستطيع البشر التكاثر بأنفسهم. وسواء كانت الأساطير تفسر الزواج أو مهمة ملحمية أو معركة مصيرية، سنجد شخصياتها دائماً تخدم غاية محددة.

Pandora About to Open Her Box
باندورا عل وشك أن تفتح صندوقها
Lawrence Alma-Tadema (Public Domain)

الأساطير التاريخية تعيد سرد حدث من الماضي لكنها ترتقي به عبر إكسابه معناً أكبر من الحدث الفعلي (إذا كان وقع أصلاً). من أمثلة ذلك القصة حول معركة كوروكشترا كما وردت في الملحمة الهندية ماهابهاراتا حيث يرمز الأخوان باندافا لقيم مختلفة ويقدمان القدوة الحسنة للاقتداء بها، حتى لو وقعا في الإثم أحياناً. ثم يرد ذكر كوروكشترا بإيجاز في البهاغافاد غيتا حيث يلتقي أحد الأخوين باندافا، يدعى أرجونا، في أرض المعركة بالإله كريشنا، الذي يجسد صورة إله الحماية الهندي فيشنو، لكي يلقنه غاية المرء في الحياة. سنلاحظ مدى ما تتركه هاتان القصتان من أثر قوى في نفوس المتلقين على المستوى الأسطوري وبصرف النظر عن وقوع معركة كوروكشترا حقيقة من عدمه. ويمكن الادعاء بالشيء نفسه بخصوص الأساطير الدينية في القصص الإبراهيمي كما وردت بالكتاب المقدس أو حصار طروادة وسقوطها كما جاء في إلياذة هومر أو رحلة أوديسيوس عائداً إلى الديار في الأوديسة أو مغامرات اينيس في مؤلفات فيرجيل.

الأساطير النفسية تعرض قصة رحلة من المعلوم إلى المجهول والتي تمثل، وفقاً لكل من يونغ وكامبل، حاجة نفسية لإحداث توازن بين العالم الخارجي وبين وعي المرء الداخلي به. وبصرف النظر عن طريقة تحقيق ذلك، تنطوي قصة الأسطورة ذاتها في العادة على بطل أو بطلة في رحلة يكتشفان خلالها شخصيتهما الحقيقية أو قدرهما، وبفعلهما ذلك يجتازان أزمة وفي الوقت نفسه يعلمان المتلقي قيمة ثقافية هامة ما.

ربما أفضل الأساطير الكلاسيكية المعلومة من هذا النوع هي أسطورة الأمير أوديب الذي في سعيه للهرب من نبوءة رأى فيها المنجمون أنه عندما يكبر سيقتل أباه، يترك حياته وراءه ويرحل لمنطقة بعيدة حيث ينتهي به المآل من دون علمه إلى قتل الرجل الذي كان أباه الحقيقي والذي كان قد هجره عند ولادته في محاولة منه هو بدوره للهرب من النبوءة ذاتها.

Oedipus & the Sphinx of Thebes
أوديب والسفنكس الأسطوري من مدينة طيبة اليونانية القديمة
Carole Raddato (CC BY-SA)

كانت حكاية أوديب تبرهن لجمهور يوناني قديم على عُقم مساعي المرء للهرب من قدره أو تغييره بعدما رسمته له الآلهة وكانت تذكي بداخلهم مشاعر الخوف والرهبة والإجلال تجاه هؤلاء الآلهة، ومن ثم مزيداً من ترسيخ قيمة ثقافية مرغوبة. وعلى المستوى الشخصي، كان باستطاعة هذه القصة أيضاً مواساة السامع لكي يرضى بما قد يعتريه من محن واختبارات في ذلك الزمان حين يرى أن حتى شخصية ملكية مثل أوديب لم تسلم من ويلات المعاناة، وأن أياً ما كانت المشقة والمحنة التي يمر بها المرؤ لن تكون من السوء بقدر أن يقتل المرؤ أباه ويتزوج المرؤ دون علمه من أمه.

بالنسبة للقدماء، كان معنى القصة هو الأكثر أهمية، لا الحقيقة الحرفية لتفاصيل نسخة معينة من الحكاية.

أساطير شهيرة من هذه الأنواع

تأتي أحد أكثر الأساطير السببية شهرة من اليونان في صورة حكاية إلهة الحبوب والحصاد ديميتر وابنتها بيرسيفوني التي أصبحت ملكة الموتى. في هذه القصة، نجد إله العالم السفلي حادس يختطف بيرسيفوني وينزل بها إلى عرشه في مملكة الظلام. تُفجع ديميتر وتجوب كل مكان بحثاً عن ابنتها دون جدوى. خلال هذه الفترة من حزن ديميتر، تذبل المحاصيل ويجوع الناس ولا توفى الآلهة مستحقاتها. وعليه، يصدر ملك الآلهة زيوس أوامره إلى حادس لكي يعيد بيرسيفوني لأمها ويطيعه حادس، لكن بعدما تكون بيرسيفوني قد تناولت عدداً معيناً من بذور الرمان أثناء إقامتها في العالم السفلي، ومن ثم أصبح يتعين عليها قضاء نصف العام تحت الأرض ثم الاستمتاع بالنصف الآخر برفقة أمها في العالم فوق.

هذه القصة فسرت تغير المواسم في اليونان. حين كان الطقس دافئاً والحقول يانعة، كانت بيرسيفوني بصحبة أمها وديميتر فرحة وهو ما جعل العالم مزدهراً؛ وأثناء فصل البرد والأمطار، عندما تكون بيرسيفوني تحت الأرض لدى حادس كزوجة له، كانت ديميتر حزينة وهو ما جعل الأرض جدباء وقاحلة. بالتالي، في مجرى الحكاية، كانت ديميتر تعلم شعب إليوسيس أسرار الزراعة. وبالإضافة إلى فائدة هذه الأسطورة في تفسير كيف تعلم الناس زراعة الأرض لأول مرة، فقد علمتهم أيضاً الطريقة الصائبة لاسترضاء ديميتر واستعطافها، ومن ثم عبادة الآلهة.

أشهر الأساطير التاريخية في الغرب حكاية الإلياذة الملحمية لهومر من القرن الثامن قبل الميلاد وتحكي قصة حصار وسقوط مدينة طروادة. وفيها هربت هيلين، زوجة مينلاوس ملك الآخايين، برفقة الأمير الطروادي باريس؛ يحلف مينلاوس أغلظ الأيمان على استعادتها بالقوة إلى الديار ويلتمس العون من شقيقه أجَامِمْنُون، الذي بدوره يلتمس العون من ملوك وأمراء سائر المدن-الدول الأخرى ويبحرون جميعاً لمهاجمة طروادة. ثم أثناء المعركة يشعر بطل الآخايين الهمام آخيليس، المشهود له بالقوة والجسارة، بالإهانة من أجَامِمْنُون ويأبى مواصلة القتال، الأمر الذي يفضي إلى وفاة محبوبته باتروكلوس ومعها نفر كثير من الجمع الآخاييني. سنلاحظ أنه رغم سرد الإلياذة العديد من القصص المختلفة، إلا أنها جميعاً تبرز وتصب في موضوع محوري يتعلق بمخاطر الكِبْر كقيمة ثقافية. إذ حين يكون المرء صاحب عزة نفس وكبرياء اعتبر فضيلة، لكنه حين يفرط يتحول إلى كِبْر يؤدي بصاحبه إلى المهالك.

استكشف الصينيون هذا الموضوع بطريقة مغايرة من خلال حكاية إله النار فوشي. بوصفه إله، كان فوشي منشغلاً بمسؤوليات جمة ورغم ذلك لم يرفض حين طلبت منه صديقته، الإلهة نوا، يد المساعدة. كانت نوا قد فرغت لتوها من خلق البشر لكن لسوء حظها اكتشفت عدم كفاءتهم في القيام بأي شيء ذي جدوى وما كانت تملك من الطاقة والصبر ما يكفي لتعليمهم. لذا جلب فوشي النار للبشر، وعلمهم السيطرة عليها، وكيف يستخدمونها لطهي طعامهم وتدفئة أنفسهم. ثم علمهم كيف ينسجون شباك الصيد ويصطادون الطعام من البحر، وأكسبهم فيما بعد فنون العبادة والموسيقى والكتابة. هناك من يعتقد أن حكاية فوشي قد نُسجت من قصة ملك قديم فعلي عاش خلال الفترة بين 2953-2736 قبل الميلاد والذي ربما قد مهد الطريق لظهور أسرة شيا (حوالي 2070-1600 ق.م)، وهي أول أسرة ملكية صينية في التاريخ المدون. في هذه القصة، يضع فوشي كبريائه كإله جانباً ويتواضع ليضع نفسه في خدمة صديقته نوا والبشرية.

لا غرابة في أن تكون أقدم أسطورة في التاريخ أسطورة نفسية تتصل بحتمية الموت وسعى الفرد لإيجاد معنى في الحياة. تطورت ملحمة جلجامش (المكتوبة بين حوالي 2150 - 1400 ق. م) في بلاد ما بين النهرين من قصائد سومرية تدور حول جلجامش التاريخي، ملك أورك، الذي ارتقى لاحقاً إلى منزلة نصف إله. تحكي القصة عن جلجامش كملك متكبر ومغرور بنفسه إلى حد الوقاحة، ما جعل الآلهة تشعر بالحاجة لتلقينه درساً في التواضع. ولهذا الغرض يدعمون إنكيدو الوحشي في خصومته مع الملك ويتقاتل الاثنان، لكن حين لا يتمكن أي منهما من القضاء على الآخر، يصبحان صديقين حميمين. ثم في وقت لاحق تقتل الآلهة إنكيدو على خلفية إهانته لهم ويشرع جلجامش، من شدة حزنه على فراق صديقه، في رحلة البحث عن معنى الحياة كما يتجسد في مفهوم الخلود. ورغم إخفاقه في الفوز بالحياة الأبدية، إلا أن رحلته تلك تثريه ويعود إلى مملكته رجلاً أفضل وأكثر حكمة وملكاً.

Flood Tablet of the Epic of Gilgamesh
لوح الطوفان من ملحمة جلجامش
Osama Shukir Muhammed Amin (Copyright)

يشتهر عن جوزيف كامبل تسميته نوع الأسطورة النفسية الأشهر "رحلة البطل" التي تبدأ فيها القصة ببطل أو بطلة، عادة من أصول ملكية، ينفصلان عن شخصيتهما الحقيقية ويعيشان في عالم أو مملكة من الفوضى. ثم يجتاز البطل مراحل شتى في القصة، تأخذ في العادة شكل رحلة مضنية، حتى يكتشف من يكون هو في الحقيقة ويستطيع تقويم خطأ ما جسيم يستعيد الصواب إلى نصابه. هذا التطور السردي يشتهر في العصر الحديث في الحبكة الدرامية لفيلم ’حروب النجوم‘ الذي يشهد ما حققه من نجاح مدوي على مدى القوة الحية الكامنة لا تزال في الموضوعات والرموز الأسطورية.

الخاتمة

كان، ولا يزال، لكل ثقافة في العالم نوعها الخاص من الأساطير. سنجد أن الأساطير الكلاسيكية لقدماء اليونانيين والرومانيين هي الأكثر ألفة وانتشاراً وسط الشعوب الغربية لكن الدوافع المكتشفة في تلك القصص تنعكس في أخريات مثلها من حول العالم. سنلاحظ أن الحكاية اليونانية عن بروميثيوس جالب النار ومعلم البشرية لها أصداء في الحكاية الصينية عن فوشي. وقصة نوا وخلقها للبشر تتوازى مع أخريات من الجانب الآخر من العالم: قصة الخلق من كتاب المايا المقدس بوبول فوه التي يخلق فيها بشر لا يستطيعون القيام بشيء وعديمي النفع لكن، حسب قصة المايا، تهدمهم الآلهة لتعيد خلقهم من جديد. ويظهر نفس الدافع في أساطير بلاد ما بين النهرين حيث تعاني الآلهة الأمرين في خلق البشر الذين يظهرون إلى الوجود بشكل سيء المرة تلو الأخرى.

الغرض من الأسطورة هو إمداد المستمع بحقيقة يفسرها فيما بعد بنفسه لنفسه داخل النظام القيمي الخاص بثقافته.

يمكن العثور على نفس الأنواع من القصص، وغالباً القصة ذاتها، في أساطير من أنحاء مختلفة من العالم. وهكذا سنلاحظ أن أساطير الأفارقة أو الأمريكيين الأصليين أو الصينيين أو الأوروبيين كلها تخدم نفس الوظيفة المتمثلة في التفسير والطمأنة وإضفاء المعنى. سنلاحظ تطابقاً لافتاً بين قصة الخلق كما ترد في سفر التكوين بالكتاب المقدس، على سبيل المثال، حيث ينفخ إله عظيم روح الوجود في الخلق وبين قصص الخلق من سومرية ومصر وفينيقيا والصين القديمة.

كما يمكن العثور على قصة الطوفان العظيم في الأساطير من كل ثقافة تقريباً على وجه الأرض لكنها تأخذ شكلها في الكتاب المقدس اقتباساً من أسطورة أتراحاسيس من بلاد ما بين النهرين. كذلك شخصية الإله الذي يموت ثم يبعث (معبود يموت لخير شعبه، أو للتكفير عن ذنوبهم، ينزوي متغيباً في غياهب الأرض، ثم يبعث مجدداً إلى الحياة) يمكن تتبعها عودة إلى سومرية القديمة في حكايات جلجامش، قصيدة ’نزول إنانا‘ وغيرها وإلى أسطورة إيزيس المصرية، والقصص اليونانية عن ديونيسوس وعن ادونيس وعن بيرسيفوني، ودورة البعل الفينيقية، وكريشنا الهندوسية (من بين أخريات) وصولاً إلى الأكثر شهرة على الإطلاق من بين جميع مثل هذه الشخصيات، عيسى المسيح. يدعي الإصحاح 9:1 من سفر الجامعة بالكتاب المقدس أنه "ليس من جديد تحت الشمس" وهذا يصدق مع نظم الأساطير والرموز والشخصيات الدينية بقدر ما يصدق على أي شيء آخر. يذكر جوزيف كامبل:

في كل أنحاء العالم المسكون بالبشر، في كل الأزمان وتحت كل الظروف، قد ازدهرت الأساطير حول الإنسان؛ كانت الإلهام الحي لكل ما تفتقت عنه أنشطة البشر الجسدية والذهنية. وليس من قبيل المبالغة القول إن الأسطورة هي السر الذي أطلق العنان لطاقات كونية لا تنضب صبت في نهر التجليات الثقافية الإنسانية. الأديان والفلسفات والفنون والتشكيلات الاجتماعية للإنسان البدائي والقديم، والاكتشافات الأولية في العلوم والتكنولوجيا، وحتى الأحلام أثناء النوم، جميعها تنبثق من حلقة الأسطورة الأساسية والسحرية. (3)

تحاول الأساطير الإجابة على أصعب الأسئلة وأكثرها بدائية عن الوجود البشري: من أكون؟ من أين أتيت؟ لماذا أنا هنا؟ وإلى أين سأذهب؟ بالنسبة للقدماء، كان معنى القصة هو الأكثر أهمية، لا الحقيقة الحرفية لتفاصيل نسخة معينة من الحكاية. على سبيل المثال، هناك تنويعات عديدة حول ميلاد وحياة الإلهة المصرية حتحور، ومع ذلك ما كان المصري القديم سيأبى تصديق أي منها أو يعتبرها ’زائفة‘ ويختار أخرى بوصفها ’الحقيقية‘ والصحيحة. بل كانت الحقيقة تكمن في رسالة الأسطورة نفسها وليس في تفاصيل قصة بالذات، وهو ما يتجلى في الجنس المعروف باسم أدب نارو ببلاد ما بين النهرين الذي تتحرر فيه الشخصيات التاريخية من سياقها التاريخي.

كان مفهوماً في العالم القديم أن الغرض من الأسطورة هو إمداد المستمع بحقيقة يفسرها فيما بعد بنفسه لنفسه داخل النظام القيمي الخاص بثقافته. كان إدراك الحقيقة متروك لتفسير المتلقي الفرد للقيم المعبر عنها في الأساطير بدلاً من أن يُعهد بتفسير الحقيقة إلى شخصية ذات سلطة.

ويظل ذلك هو الاختلاف الأساسي بين العظة (الخُطبة الدينية) والتجربة الفردية مع الأساطير الدينية؛ فالعظة، ضمن منظومة المعتقدات الثقافية للمرء، قد تشجع أو تعزز فقط المعتقدات السائدة بينما الأسطورة، حتى لو كانت تفعل الشيء نفسه، بمقدورها الارتقاء بفهم الفرد وتطويره من خلال الطاقة الكامنة في المشاهد والشخصيات والصور والموضوعات الرمزية. الأساطير القديمة لا تزال تروق للمتلقي الحديث تحديداً لأن كتبتها القدماء صاغوها باتجاه أن يُترك تفسيرها للفرد ذاته، ويُترك لكل من يسمع القصة أن يتعرف بنفسه على المعنى الكامن في الحكاية ويستجيب له بطريقته الخاصة.

قائمة المصادر والمراجع

موسوعة التاريخ العالمي هي إحدى شركات Amazon Associate وتحصل على عمولة على مشتريات الكتب المؤهلة.

نبذة عن المترجم

عبد المجيد الشهاوي
مترجم متفرغ يحب القراءة والكتابة

نبذة عن الكاتب

Joshua J. Mark
كاتب مستقل وأستاذ سابق بدوام جزئي في الفلسفة في كلية ماريست، نيويورك، عاش جوشوا ج. مارك في اليونان وألمانيا وسافر إلى مصر. قام بتدريس التاريخ والكتابة والأدب والفلسفة على المستوى الجامعي.

استشهد بهذا العمل

نمط APA

Mark, J. J. (2018, October 31). الأسطورة [Mythology]. (ع. ا. الشهاوي, المترجم). World History Encyclopedia. تم استرجاعها من https://www.worldhistory.org/trans/ar/1-427/

أسلوب شيكاغو

Mark, Joshua J.. "الأسطورة." تمت ترجمته بواسطة عبد المجيد الشهاوي. World History Encyclopedia. آخر تعديل October 31, 2018. https://www.worldhistory.org/trans/ar/1-427/.

أسلوب إم إل إيه

Mark, Joshua J.. "الأسطورة." تمت ترجمته بواسطة عبد المجيد الشهاوي. World History Encyclopedia. World History Encyclopedia, 31 Oct 2018. الويب. 20 Nov 2024.