التدوين هو التعبير المكتوب عن لغةٍ ما. اختُرعت المسمارية، أول كتابة، في سومر في بلاد ما بين النهرين حوالي عام 3500 ق.م، والهيروغليفية في مصر في وقتٍ قبل عصر الأسر المبكرة (حوالي 3150-2613 ق.م)، والسنسكريتية في الهند خلال الفترة الفيدية (Vedic Period) (حوالي 1500 إلى حوالي 500 ق.م). وتبنت ثقافات أخرى الكتابة لاحقًا مما مكن من تطوير الحضارة.
تُعرف الفترة السابقة لاختراع الكتابة باسم عصور ما قبل التاريخ، حيث لم يكن هناك سجل مكتوب للفكر والتصرفات البشرية. يعيد علماء الآثار بناء هذه الحقبة من خلال الأدلّة الماديّة مثل المتاع الجنائزي، والمواقع بما في ذلك قرية بانبو (Banpo) في الصين أو سكارا براي (Skara Brae) في اسكتلندا، والرسوم على جدران الكهوف، ومكبات النفايات القديمة. لكن بعد اختراع الكتابة، أصبح التاريخ المكتوب للحضارة متاحًا ليكمل ويوضح كيف عاش الناس وكيف فكروا، وهذان الأمران معًا يوفران للعالم الحديث تاريخه.
تطور نظام الكتابة من أنظمة الكتابة البسيطة إلى أنظمة الكتابة الأكثر تعقيدًا:
- بيكتوغرافي - (Pictographic) رمز لشيء أو كلمة أو عبارة
- إيديوغرافي (Ideographic) - رمز لشيء أو مفهوم مثل علامة % للنسبة المئوية
- لوجوغرافي (Logographic) - رمز لكلمة أو عبارة كاملة
- فونوغرافي (Phonographic) - رمز يمثل صوتًا
- أبجدي (Alphabetic) - أقل من 100 رمز (حرف) تستخدم لتشكيل كلمات تمثل أشياء ومفاهيم
لا تزال النُظُم الثلاثة الأخيرة مستخدمة في اللغات المكتوبة اليوم مثل الصينية (اللوغوجرافية)، والروسية (الفونوغرافية)، والإنجليزية (الأبجدية). ولا يزال العلماء مستمرون في مناقشة ما إذا كانت بلاد ما بين النهرين أو مصر أو حضارة وادي السند هي أول من اخترعت الكتابة، ولكن بالعموم، يُعتقد أنها نشأت في سومر. وبمجرد اختراعها، طُوِرت من قبل حضارات أخرى بغرض التواصل وحفظ السجلات المتعلقة بالتجارة والمعتقدات الدينية، ولكن مع مرور الوقت، أصبحت تحافظ على كل جانب من جوانب الحالة الإنسانية.
بلاد ما بين النهرين وولادة الكتابة
اختُرعت الكتابة لأول مرة في سومر حوالي عام 3500 ق.م ونُقحت حوالي عام 3200 ق.م في مدينة أوروك. على الرغم من أن شعب حضارة وادي السند (حوالي 7000- حوالي 600 ق.م) يُشار إليه أحيانًا على اعتباره أول من اخترع الكتابة، إلا أن الكتابة في وادي السند لم تُفك رموزها، ويرجع تاريخ أقدم النقوش إلى منتصف أو أواخر فترة هرابا المبكرة (Early Harappan Period) (حوالي 5500-2800 ق.م) أي حوالي ما بعد عام 3500 ق.م. بحلول هذا الوقت كانت الكتابة المسمارية الأولية في بلاد ما بين النهرين قد اخترعت فعلًا، إضافةً إلى أختام الطباعة المعروفة باسم الأختام الأسطوانية، والتي يرجع تاريخها إلى حوالي 7600-6000 ق.م. يعلق الباحث ستيفن بيرتمان (Stephen Bertman) على أصل الكتابة في بلاد ما بين النهرين:
بقدر ما كان تأثيرها متسعًا ومُبهرًا، فإن أصول الكتابة كانت بسيطة ومتواضعة. كانت الأرض ذاتها مهدًا لها: كان الطين الموجود بجوار أنهارها يُشكل بالأيدي ألواحاً صغيرة تشبه الوسائد للكتابة عليها، في حين كان القصب الذي ينمو على ضفاف الأنهار يتحول إلى أدوات. ومع قطع الجزء العلوي والسفلي من الساق بعناية، تحول القصب إلى قلم واكتسب مقطعاً عرضياً مثلث الشكل يمكن ضغطه في الطين الطري. والفجوات ذات الشكل الاسفيني سببت لاحقًا ظهور اسم هذا النمط من الكتابة، وهو "الكتابة المسمارية"، المشتقة من الكلمة اللاتينية "cuneus" التي تعني الإسفين. (144)
اختُرعت الكتابة لتلبية الاحتياجات التي نشأت عن التجارة في بلاد ما بين النهرين القديمة، كما يلاحظ بيرتمان:
أمرٌ واحدٌ مؤكدٌ تقريبًا: الحاجة كانت أم الاختراع. فمع تزايد تعقيد كل ثقافة اقتصادياً وسياسياً قرابة الألفية الرابعة قبل الميلاد، ابتُكرت الكتابة كوسيلة لحفظ السجلات. ووجدت كل أمة في بيئتها الطبيعية المواد الخام التي المطلوبة لكي تصبح متعلمة. (144)
في بلاد ما بين النهرين بدأ هذا في فترة أوروك (4100-2900 ق.م) وتطور بشكل كامل بحلول عصر الأُسر المبكرة (2900-2334 ق.م). كانت الأدوبة (كلمة ذات جذر سومري - من فعل أدب - ملاحظة المترجم) (The edubba) ("بيت الألواح") هي مدرسة الكتابة حيث دُرِّسَت الكتابة وصُقلت بشكل أكبر، حيث بحلول عام 2600 ق.م تقريبًا أُنتج الأدب وسُجلت أنشطة الحياة اليومية. تعاليم شوروباك (Instructions of Shuruppag)، أقدم نص فلسفي في العالم، يؤرخ عادةً بحوالي عام 2000 ق.م، ولكن يمكن أن يعود إلى حوالي عام 2600 ق.م، ويرجع تاريخ أول ظهور للملك-البطل جلجامش (Gilgamesh) إلى حوالي عام 2150 ق.م.
مع تطور الكتابة كحرفة، أصبحت تتطلب إلهًا راعياً خاصًا بها، والذي تم تصوره أولاً على أنه الإلهة السومرية نيسابا (Nisaba)، ولاحقًا، الإله البابلي نبو (Nabu). هذه الآلهة، مثل آلهة الحضارات الأخرى، كان يُعتقد أنها تُلهم الكتبة بالقدرة على التقاط المفاهيم وتضمينها في النصوص وحفظها للأجيال القادمة للتعلم منها. وكانت القدرة على كتابة النصوص وقراءتها، في أي ثقافة، موضع تقدير كبير، وكانت الأعمال المعروفة الآن باسم الأدب تُنسب بانتظام إلى الإلهام والتوجيه الإلهي، كما لاحظ الباحث ويل ديورانت (Will Durant):
إن الأدب في البداية عبارة عن كلمات وليس حروفًا، على الرغم من اسمه؛ فهو ينشأ كترانيم رجال الدين أو تعويذات سحرية، يتلوها الكهنة عادةً، وينتقل شفويًا من ذاكرة إلى ذاكرة. كانت كلمة (Carmina)، التي أطلقها الرومان اسمًا على الشعر، تعني كلاً من الأبيات والتعويذات؛ وكانت كلمة (ode) بين الإغريق تعني في الأصل تعويذة سحرية؛ وكذلك كانت كلمتي (rune) و (lay) الإنجليزيتين، وكلمة (Lied) الألمانية. يبدو أن الإيقاع والوزن، المستوحيان ربما من إيقاعات الطبيعة والحياة الجسدية، قد طورهما السحرة والشامانات لحفظ وتعليم وتعزيز التعاويذ السحرية في شعرهم. بالإضافة إلى هذه الأصول الكهنوتية، تم تمييز الشاعر والخطيب والمؤرخ وإضفاء طابع علماني عليهم: الخطيب كمادح رسمي للملك أو محامٍ للآلهة؛ المؤرخ كمُسجل لأعمال الملك؛ الشاعر كمنشد للترانيم المقدسة الأصل، وصائغ الأساطير البطولية وحافظها، والموسيقي الذي لحن حكاياته لإرشاد العامة والملوك." (77)
كانت الكاهنة الكبرى إنخيدوانا (Enheduanna) (حوالي 2285 - 2250 ق.م)، ابنة سرجون الأكادي (Sargon of Akkad) (سرجون الكبير، حكم 2334 - 2279 ق.م)، أول كاتبة معروفة في العالم باسمها، هي الكاتبة الأكثر شهرة في بلاد ما بين النهرين بأعمالها الأدبية. في البداية، استُخدمت الكتابة المسمارية لتدوين اللغة السومرية، ولكن خلال الفترة الأكادية (2334 -2218 ق.م) وبعدها، استُخدمت أيضًا في كتابة اللغة الأكادية، وفي وقت لاحق استخدمت لكتابة اللغات الأخرى لحضارات بلاد ما بين النهرين.
الهيروغليفية المصرية
يُشاهد نفس النموذج لتطور الكتابة في ثقافات قديمة أخرى. ففي مصر القديمة، اختُرعت الكتابة أيضًا لنقل المعلومات عن البضائع في التجارة إلى مسافات البعيدة. وترجع أقدم كتابة تصويرية (pictographic writing) إلى عصر ما قبل الأسرات (Predynastic Period) في مصر (حوالي 6000 إلى حوالي 3150 ق.م) وتطورت إلى الكتابة الهيروغليفية بحلول عصر الأسر المصرية المبكرة (Early Dynastic Period)، كما يتضح من شكل قوائم القرابين الموجودة في المقابر.
وكما كان الحال في بلاد ما بين النهرين، نسب المصريون إلى الآلهة موهبة الكتابة، وواعتبروا تحوت (Thoth) وسشات (Seshat) آلهتهم الأدبية. ولم تكن سشات مصدر إلهام للكتبة المصريين فحسب، بل كانت تحتفظ بأعمالهم في مكتبة سماوية حيث كان يُعتقد أنها ستُحفظ إلى الأبد، الأمر الذي شجع على الاعتقاد في الكتابة كوسيلة للخلود. ولكن الأمل في الحياة الأبدية من خلال عمل المرء لم يكن متاحاً إلا للكاتب الذي يكتب بروح الحقيقة، أو بعبارة أخرى، الذي كان على اطلاع على الموضوع وكان عمله يشجع على الاعتراف بالقيم الثقافية. وتعلق الباحثة مارجريت بونسون (Margaret Bunson):
[في مصر القديمة، كان تحوت هو من ابتكر النصوص.] وكان يعتبر ماهرًا في السحر وأصبح راعيًا لجميع الكتبة في جميع أنحاء البلاد. يظهر تحوت في أساطير حورس، وكان يُصوَّر في كل عصر باعتباره الإله الذي "يحب الحقيقة ويكره المُنكر". (بونسون، 264)
ولكن قبل أن يتمكن الكتبة المصريون من كتابة أي شيء على الإطلاق، كانوا في حاجة إلى شيء يكتبون عليه وبه. وكانت الرسوم الصورية (pictographs) المصرية المبكرة تُنحت على الصخور وتُرسم في المقابر، وكانت الكتابة الهيروغليفية المبكرة تتبع نفس النمط، حتى اكتشاف مواد أخرى. ويشير بيرتمان إلى ما يلي:
في نفس الفترة تقريباً من التاريخ [التي ابتكر فيها السومريون الكتابة]، اختُرعت الكتابة في وادي النيل. وهناك استخدم المصريون نباتاً ينمو بكثرة على ضفتي النهر، وهو نبات البردي. ومن لبه الليفي، الذي يُسوى بالطرق ويجفف في الشمس، صنعوا أول ورق في العالم. والواقع أن كلمة "ورق - paper" في اللغة الإنجليزية مشتقة من الكلمة القديمة "بردي - papyrus". ومن الألياف اللينة في أطراف سيقان النبات، صنع المصريون الفُرَش التي استخدموها لوضع الحبر على الورق. (144)
بدايةً، استخدمت الكتابة لتدوين قوائم القرابين، وهي قائمة تتضمن ما كان مُستحقاً للموتى وتُكتب على جدران مقابرهم. وقد تطول هذه القوائم إلى حد كبير، وغالبًا ما تتضمن تفاصيل عن حياة الشخص وصلاة من أجل القرابين. وقد ألهمت هذه القوائم المبكرة الأعمال الأولى المكتوبة على ورق البردي - الصلوات والسير الذاتية - والتي تطورت في نهاية المطاف إلى الأدب المصري. كانت أعمال الكتبة المصريين خيالية وغير خيالية، دينية ودنيوية، ولكن في أي شيء مكتوب كان يُفهم أنهم يمثلون حقيقة موضوعهم. كانت الكتابة حرفة مقدسة في مصر، وكانت كتابتهم تُعرف باسم medu-netjer ("كلمات الآلهة")، وترجمها الإغريق إلى الهيروغليفية ("النقوش المقدسة").
الكتابة الصينية والسنسكريتية
كان ارتباط الكاتب بالحقيقة، واعتبار الكتابة وسيلة للكشف عن الحقيقة وحفظها، من الثوابت في الثقافات الأخرى أيضًا. ففي الصين، ظهرت أقدم الكتابة خلال عهد أسرة شانغ (Shang Dynasty) (1600-1046 قبل الميلاد) حوالي عام 1200 ق.م من خلال استخدام عظام العرافة في ممارسة الكهانة. كانت الأسئلة، في شكل رموز صورية (pictographs)، تُنقش على صدفة سلحفاة أو عظم حيوان، ثم يُعرض هذا الشيء لحرارة شديدة. وكانت الشقوق الناتجة في الصدفة أو العظم تزود العراف بإجابة على السؤال المطروح.
ولكن هذه الإجابة لم تأت من العراف البشري بل من عالم الآلهة، وبالتالي كانت حقيقة يمكن التعرف عليها. ومن هذه البداية، تطورت الكتابة إلى التعبير المكتوب عن اللغة المنطوقة في الصين. وكانت أقدم أربع خطوط هي:
- Jiaguwen – كتابة بيكتوغرافية (تُستخدم على عظام العرافة)
- Dazhuan – كتابة بيكتوغرافية ولكنها أكثر دقة، تم تطويرها حوالي 1000-700 قبل الميلاد، ومعروفة أيضًا باسم خط الختم الأكبر
- Xiaozhuan – كتابة لوغوغرافية، تم تطويرها حوالي 700 قبل الميلاد، ومعروفة أيضًا باسم خط الختم الأصغر
- Lishu – كتابة لوغوغرافية ، تم تطويرها حوالي 500 قبل الميلاد، ومعروفة أيضًا باسم كتابة كليركي (Clerky) حيث كان يستخدمها الموظفون الحكوميون
وتضمنت الخطوط اللاحقة كايشو (Kaishu) وشينغشو (Xingshu) وكاوشو (Caoshu)، التي تطورت جميعها خلال عهد أسرة تشين (Qin Dynasty) (221-206 قبل الميلاد) وأسرة هان (Han Dynasty) (206 قبل الميلاد-220 بعد الميلاد). وكما هو الحال في مصر وبلاد ما بين النهرين، كان من المتوقع أن يقدم الكتبة الصينيون الحقيقة في كتاباتهم، وهو ما يعني أن يكونوا على دراية بالموضوع، وبالتالي، في أي ثقافة، لم يكن الكاتب متعلمًا فحسب، بل متعلمًا تعليمًا عاليًا. وقد تبنت كل من اليابان وكوريا وفيتنام وخيتان (Khitan) في منغوليا الكتابة الصينية، فضلاً عن أنها أعطت المبادئ الأساسية لخط تانغوت (Tangut) في التبت. ومع انتشار الكتابة، انتشر مفهوم الكاتب المتعلم والمطلع.
إن اعتبار الكتابة تمثيلاً للحقيقة وأنها مستوحاةً من الآلهة يتجسد في كتاب الريج فيدا (Rig Veda)، وهو أقدم الكتب المقدسة الهندوسية المعروفة باسم الفيدا (Vedas)، والذي يعود إلى الفترة الفيدية (Vedic Period). وقد تطورت الكتابة السنسكريتية في الهند عن طريق الهندو-آريين (آري كلمة تعني "حر" أو "نبيل" ولا علاقة لهذه التسمية بالعِرق) وتم نقل الفيدا - التي يُعتقد أنها الكلمات الفعلية للكون - عن طريق التقليد الشفهي قبل أن يُلتزم بكتابتها بدءًا من حوالي عام 1500 ق.م.
يتألف الريج فيدا من عشرة كتب من الترانيم، ويتناول الأسئلة الفلسفية الأساسية المتعلقة بالوجود البشري، بما في ذلك "ما هو مصدر الحياة؟" و"كيف نشأ العالم؟". وقد طُرحت هذه الأسئلة بوضوح ودارت مناقشات حول إجاباتها لبعض الوقت قبل الفترة الفيدية، ولكن بمجرد تطور نظام الكتابة أصبح من الممكن الرجوع إلى العمل المكتوب، وأُنشئت أعمال أخرى كتعليق عليه. من خلال هذه العملية، تمت كتابة الفيدات الأخرى بالإضافة إلى التعليقات اللاحقة عليها. كما سمحت اللغة السنسكريتية أيضًا بتدوين معتقدات الشارفاكا (Charvaka) والجاينية (Jainism) والبوذية (Buddhism).
فينيقيا واليونان وروما
استخدم الإغريق القدماء أيضًا الكتابة في وقت مبكر للحفاظ على معتقداتهم الدينية. يرجع تاريخ النص المعروف باسم "غرفة ألواح العربات"، وهو أقدم عمل معروف مكتوب بما يعرف بنظام الكتابة الخطي ب (Linear B script)، إلى حوالي 1400-1200 ق.م خلال فترة الحضارة الميسينية (period of the Mycenaean Civilization) (حوالي 1700-1100 ق.م). لا يزال النص اليوناني المبكر الآخر، النص الخطي أ، غير محلول الرموز. تُعدِّد "غرفة ألواح العربات"، على الرغم من أنها ليست نصًا دينيًا بحتًا، العديد من الآلهة الذين ظهروا في البانثيون اليوناني في الفترة الكلاسيكية اللاحقة.
طُوِّرت الأبجدية الفينيقية بحلول عام 1100 ق.م تقريبًا، وتبناها الإغريق في القرنين التاسع والثامن ق.م، وحلت محل الكتابة الخطية ب (Linear B script). كما كُتبت بالأبجدية اليونانية وفقًا للنظام الفينيقي أعمال مثل الإلياذة (Iliad) والأوديسة (Odyssey) لهوميروس (Homer)، وكذلك قصائد الأعمال (Works) والأيام (Days) وثيوغونيا (Theogony) (وتعني أنساب أو ذريّة الآلهة) لهسيودوس (Hesiod)، والتي يرجع تاريخها جميعًا إلى القرن الثامن ق.م تقريبًا. وفقًا لهيرودوت (عاش حوالي Herodotus) (484 - 425 - 413 ق.م) جُلبت الأبجدية إلى اليونان من قبل الفينيقي قدموس (Cadmus) المعروف بأنه أحد أقدم الأبطال اليونانيين والمؤسس الأسطوري لمدينة ثيفا اليونانية (Thebes):
انتهى الأمر بالفينيقيين الذين قدموا إلى اليونان مع قدموس إلى العيش في هذه الأرض وتعريف الإغريق بعدد من الإنجازات، وأبرزها الأبجدية، والتي لم يكن الإغريق يمتلكونها قبل ذلك الوقت على حد علمي. في البداية، كانت الحروف التي استخدموها هي نفسها التي يستخدمها كل الفينيقيين في كل مكان، ولكن مع مرور الوقت، ومع تغير الصوت، قاموا بتغيير طريقة كتابة الحروف أيضًا. (V.58، Waterfield، 324)
تطورت الكتابة الأبجدية اليونانية خلال نفس الفترة تقريبًا التي تطورت فيها الكتابة الإتروسكانية، وقد شكلت هاتان، إلى جانب النظام الفينيقي، الكتابة اللاتينية في روما. ورغم عدم وجود صلة بين الكتابة اللاتينية والكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين القديمة، فإن مفهوم تمثيل اللغة في الكتابة قد انتشر من سومر إلى جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط القديم، وفي مناطق أخرى (مثل أفريقيا وآسيا وأمريكا الوسطى) متطورًا من تلقاء نفسه. وقد خدمت الكتابة اللاتينية نفس الغرض الذي خدمته السنسكريتية أو الكتابة المسمارية، كما يلاحظ ديورانت:
عندما ربطت التجارة القبائل التي تتحدث لغات مختلفة، أصبح وجود طريقة متبادلة مفهومة للتسجيل والتواصل مرغوبًا. من المحتمل أن الأرقام كانت واحدة من أقدم الرموز المكتوبة، مُتخذةً عادةً شكل علامات متوازية تمثل الأصابع؛ وما زلنا نطلق عليها "أصابع" عندما نتحدث عنها كأرقام. وتعود كلمات مثل "Five" و"Funf" الألمانية و"pente" اليونانية إلى جذر معناه اليد؛ لذا فإن الأرقام الرومانية كانت تشير إلى الأصابع، و"V" تمثل يدًا ممدودة و"X" مجرد حرفي "V" متصلين عند نقطتيهما. كانت الكتابة في بداياتها شكلاً من أشكال الرسم، أو فنًا. (76)
فن الكتابة هذا كان سبباً في إنتاج بعض من أكثر الأعمال الكتابية أهمية في تاريخ العالم. فمن "ملحمة جلجامش" (The Epic of Gilgamesh) إلى "ترنيمة إلى إنانا" (Hymn to Inanna) التي ألفتها إنخيدوانا إلى "كتاب الموتى المصري" (Egyptian Book of the Dead)، و "محاورات كونفوشيوس" (Analects of Confucius)، و"مهابهارتا" (Mahabharata) و "بهاجافاد جيتا" (Bhagavad-Gita)، و "إنيادة" (Aeneid) فيرجيل (Virgil)، فضلاً عن اتفاقيات التجارة والمراسلات وغيرها من الأعمال التي كتبها أهل بلاد ما بين النهرين ومصر والصين واليونان والهند وروما، وكل الثقافات الأخرى في العالم القديم، لم تكن الكتابة وسيلة للتواصل فحسب، بل وأيضاً وسيلة للحفاظ على الماضي؛ وكان الحفاظ على الماضي سبباً في تأسيس ثقافة المرء.
خاتمة
خدمت الكتابة في توصيل أعمق جوانب الحالة الإنسانية كما أكثرها عملية. فمن الحاجة البسيطة إلى التواصل عبر المسافات، أصبحت أنظمة الكتابة الوسيلة التي بواسطتها حفظ الناس المعرفة السابقة، وخطوات تقدمهم العظيمة، وخيبات الأمل والكوارث، موفرين لمن هم في الوقت الحاضر إمكانية التعلم من الماضي من خلال القراءة عن الأحداث السابقة والاستماع إلى أصوات أقدم، كما يلاحظ بيرتمان:
كان اختراع الكتابة أحد أعظم إنجازات بلاد ما بين النهرين. فقد سهّلت تنظيم المجتمع وإدارته، وكانت الأداة الرئيسية التي بفضل خدمتها أصبح من الممكن نشوء حضارة معقدة. وأصبحت مؤخرًا الوسيلة التي من خلالها نُقلت الخبرة الجماعية للشعوب وحكمتها عبر الأجيال. ورغم انقراض لغات وكتابات بلاد ما بين النهرين في نهاية المطاف، إلا أن اختراعها للكتابة ظل قائماً باعتباره الإرث الأكثر ديمومة الذي خلفته للعالم الحديث. (144)
إن نظام الكتابة مدرجٌ كواحد من العوامل الخمسة الضرورية لتطور الحضارة. ورغم أن الكتابة تُعَد أمراً مسلماً به في كثير من الأحيان في الوقت الحاضر، كانت الكتابة ضرورية لتقدم البشرية من خلال تزويد الناس بماضٍ يمكنهم التعلم منه والبناء عليه، وفي الوقت نفسه، تقديم مفاهيم جديدة تمامًا والحفاظ عليها أو استكشاف الأسئلة التي طُرحت لآلاف السنين. فمن الألواح الطينية وقصب بلاد ما بين النهرين إلى البريد الإلكتروني والكتب الإلكترونية في العصر الحديث، تسمح الكتابة للمرء بالتواصل بالأفكار مع آخرين قد لا يلتقي بهم أبداً عبر مسافات بعيدة وبين أماكن قد لا يراها الكتاب أنفسهم. وبالنسبة للناس القدماء، كانت هذه هدية من الآلهة يجب احترامها، وهي لا تزال كذلك بالنسبة للعديد من الناس في الوقت الحاضر.