كان الملح القادم من الصحراء الكبرى أحد السلع التجارية الرئيسية في غرب إفريقيا قديما التي لم تكن تتوفر إلا على القليل جدًا من رواسب المعادن الطبيعية. تم نقل الملح عبر قوافل الجمال وبالقوارب على طول الأنهار مثل النيجر والسنغال ، ووجد طريقه إلى المراكز التجارية مثل كومبي صالح ونياني وتمبكتو ، حيث تم إما إرساله جنوبًا أو استبداله بسلع أخرى مثل العاج والجلود ، أيضا النحاس والحديد والحبوب. كان التبادل الأكثر شيوعًا هو الملح مقابل مسحوق الذهب الذي يأتي من مناجم جنوب غرب إفريقيا. في الواقع، كان الملح سلعة ثمينة لدرجة أنه كان يساوي وزنه بالذهب في بعض أجزاء غرب إفريقيا.
مناجم الملح في الصحراء
كان هناك طلب كبير على الملح دائمًا من أجل الحفاظ على اللحوم المجففة وإضفاء مذاق إضافي على الطعام. كانت منطقة السافانا جنوب الصحراء "الغربية" (المعروفة باسم منطقة السودان) وغابات جنوب غرب إفريقيا فقيرة بالملح. يمكن لتلك المناطق القريبة من ساحل المحيط الأطلسي الحصول على المعدن من الأحواض التي تعرضت للتبخر أو من مياه البحر ، لكن ملح البحر لم يكن ذا أهمية. البديل الثالث هو الملح المشتق من رماد النباتات المحترقة مثل الدخن والنخيل ، ولكن مرة أخرى لم تكن غنية بكلوريد الصوديوم. وبالتالي، بالنسبة لمعظم منطقة السودان ، كان يجب أن يأتي الملح من الشمال. اعتبرت الصحراء الكبرى غير المضيافة هي المصدر الطبيعي الرئيسي للملح الصخري ، إما المكتسب من الرواسب السطحية الناتجة عن عملية التجفيف مثل الموجودة في قاع البحيرات القديمة أو المستخرجة من مناجم ضحلة نسبيًا حيث يتشكل الملح بشكل طبيعي ويتحول إلى ألواح. كان لون هذا الملح رمادي ، وهو أفضل بكثير من مصادر الملح الأخرى من البحر أو بعض النباتات.
الملح كسلعة تجارية: تبادل الملح بالحبوب يعود إلى عصور ما قبل التاريخ عندما كانت كل شعوب الصحراء والسافانا تتطلع إلى كسب ما لا يمكنهم إنتاجه بأنفسهم. على نطاق أوسع ، من المحتمل أن قوافل الجمال كانت تعبر الصحراء منذ القرون الأولى على الأقل من الألفية الأولى. كانت هذه القوافل يديرها "البربر" الذين لعبوا دور الوسطاء بين دول شمال افريقيا وغربها. كان الملح سلعتهم التجارية الرئيسية ، لكنهم جلبوا أيضًا سلعًا فاخرة مثل الأواني الزجاجية والقماش الناعم والسلع المصنعة. بالإضافة إلى ذلك، جاء مع هذه السلع التجارية الدين الإسلامي، وأفكار متنوعة في الفن والعمارة، والممارسات الثقافية.
سيهيمن الملح ، سواء من حيث إنتاجه أو تجارته، على اقتصادات غرب إفريقيا طوال الألفية الثانية بعد الميلاد ، أما المصادر والمراكز التجارية فستتغير باستمرار مع صعود وانهيار الإمبراطوريات. كانت مناجم الملح في إيدجيل في الصحراء مصدرًا شهيرًا ضمن التجارة التي احتكرتها إمبراطورية غانا (القرن السادس إلى الثالث عشر الميلادي). في القرن العاشر الميلادي ، بدأ بربر صنهاجة ، الذين كانوا يسيطرون على مناجم الملح في أوليل وتغازة بالتنقل عبر المدن التجارية مثل أودغست ، في تحدي احتكار إمبراطورية غانا للتجارة كما أسلفنا الذكر. في القرن الحادي عشر الميلادي ، كانت مناجم أوليل في أيدي التكروريين ، ثم نشطت هذه التجارة مع إمبراطورية مالي (1240-1645 م) ، وعاصمتها نياندي، ثم المملكة التالية التي هيمنت على المنطقة وتجارة الملح هي إمبراطورية صنغاي (القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي) وعاصمتها التجارية الكبرى جاو.
قد يكون الملح نادرًا في السافانا ولكن في مدن المعادن الصحراوية مثل تغازة (المصدر الرئيسي للملح في السودان حتى القرن السادس عشر الميلادي) وتاوديني ، كانت السلعة لا تزال وفيرة جدًا من ألواح الملح الصخري الذي استخدم لبناء المنازل. بطبيعة الحال ، اجتذب هذا المعدن الثمين المنافسة على الملكية ، كما حدث عندما حاول الزعيم المغربي محمد المهدي الدخول في السوق من خلال الترتيب لقتل العديد من تجار الملح الطوارق البارزين في تغازة في منتصف الطريق.
في القرن السادس عشر الميلادي، بالمعنى الحرفي للكلمة ، كل من كان يسيطر على تجارة الملح كان يتحكم أيضًا في تجارة الذهب ، وكان كلاهما من الركائز الاقتصادية الرئيسية للإمبراطوريات المختلفة في تاريخ غرب إفريقيا.
الرحالة المسلم ابن بطوطة في القرن الرابع عشر الميلادي ، والذي زار غرب إفريقيا في عام 1352 م ، يقدم وصفًا مطولًا للحياة في مستوطنة منجم الملح في تاوديني:
إنها قرية ليس بها معالم تجذب الناس. والغريب في الأمر أن بيوتها ومساجدها مبنية من كتل ملح ومغطاة بجلود الإبل. لا توجد أشجار، فقط رمل فيه منجم ملح. يحفرون الأرض ويعثرون فيها على ألواح سميكة ملقاة على بعضها البعض كما لو كانت مقطوعة ومكدسة تحت الأرض، يحمل الجمل لوحين، الأشخاص الوحيدون الذين يعيشون هناك هم عبيد مسوفا ، الذين ينقبون بحثًا عن الملح." (مقتبس من رحلة ابن بطولة، ص ص 121- 122)
وسائل النقل
تم تحميل الألواح الملحية ، المتينة والمتماسكة على الجمال ، وكان كل حيوان يحمل كتلتين يصل وزن كل منهما إلى 90 كيلوغرامًا. يمكن أن تتكون قافلة الجمال من 500 إلى عدة آلاف من الجمال، من المحتمل أن تكون القوافل الأولى قد عبرت الصحراء "الغربية " في القرن الثالث الميلادي ، إن لم يكن قبل ذلك ، لكن هذه الممارسة بدأت بالفعل وبشكل متزايد من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الميلادي. عندما تصل القوافل إلى مركز تجاري أو مدينة رئيسية في منطقة السودان ، يتم تبادل الملح مقابل البضائع لإعادتها عبر الصحراء في رحلة العودة ، وعادة ما تشمل هذه الأحمال الذهب والجلود والعاج، أما المناطق الداخلية في غرب افريقيا فكان يتم نقل الواح الملح بالقوارب على طول الأنهار مثل نهري النيجر والسنغال وروافدهما ثم يقطع إلى قطع أصغر ويحمله الحمالون على رؤوسهم إلى وجهته النهائية - القرى الداخلية.
يستحق وزنه بالذهب
كان الملح سلعة ذات قيمة عالية ليس فقط لأنه لم يكن من الممكن الحصول عليه في منطقة جنوب الصحراء الكبرى ولكن لأنه كان يُستهلك باستمرار ولم يلبي العرض الطلب الكلي، كانت هناك أيضًا مشكلة تتمثل في أن مثل هذا العنصر الضخم والمهم يكلف أكثر عند نقله بكميات كبيرة ، مما يزيد ينتج عنه زيادة في سعره. ونتيجة لذلك، غالبًا ما يتم استبدال الملح بمسحوق الذهب، وأحيانًا بسلعة أخرى في المناطق النائية، كما تم استخدام قطع صغيرة من الملح كعملة في بعض المعاملات التجارية.
مثال لطريقة المعاملات في غانا قديما: عندما يصل التجار إلى هذا الحد الجغرافي، يضعون بضاعتهم على الأرض ثم يغادرون ، فيأتي أهل السودان حاملين الذهب الذي يتركونه بجانب البضائع ثم يغادرون، ثم يعود أصحاب البضاعة ، وإذا اقتنعوا بما وجدوه يأخذونه. أما إذا لم يرحلوا يعود أهل السودان ويزيدون الثمن إلى أن تنتهي الصفقة.
حتى مرور الملح من طريق الى أخر يمكن أن يكون مصدر دخل مربح للحكام، على سبيل المثال ، يصف الرحالة العربي البكري ، الذي زار منطقة السودان عام 1076 م ، الرسوم المفروضة على الملح في إمبراطورية غانا والتي كانت ، على عكس السلع الأخرى مثل النحاس ، تخضع للضريبة مرتين: " من غانا يفرض ديناراً ذهبياً واحداً عند إدخاله إلى بلده ودينارين عند إرساله.
حتى اليوم ،تجارة الملح مازالت مستمرة، على الرغم من نفاد الترسبات الملحية، كما لم يعد التجار قادرين على التحكم في مسحوق الذهب.
لا يزال الملح الصحراوي من تاوديني يتم نقله بواسطة قوافل جمال الطوارق ، لكن الألواح التي وزنها يفوق 90 كيلوغرامًا تتوجه في النهاية إلى مصافي باماكو في مالي.