فرضت الكنيسة القروسطية احتكارها على الحياة الروحانية لعموم الأوروبيين خلال الحقبة الأولى من القرون الوسطى (حوالي 476-1000م) ثم استكملت قبضتها تلك خلال الحقبتين الوسطى (100-1300) والمتأخرة (1300-1500). خلال هذه القرون، استشرى الفساد بشكل ملحوظ وسط رجال الدين لدرجة أنهم أهملوا الفرائض الدينية الأساسية في المسيحية وانغمسوا في رغد العيش وملذات الحياة المتأتية من حصيلة جبايتهم زكاة الأعشار من قوت عامة الناس.
شيئاً فشيئاً، أصبح رجل الدين في نظر العامة مرادفاً للنفاق والخطيئة إلى حد انتشار العواطف المناهضة للكنيسة عبر عموم أوروبا قبل وقت طويل من منتصف القرون الوسطى، ما أسهم في ظهور أنظمة اعتقاد بديلة أدانتها الكنيسة واعتبرتها من البِدَعْ المفضية إلى الضلال الموصل للكفر والخروج من الملة المسيحية.
ما كان بمقدور الناس العاديين- ولا حتى النبلاء- فعل شيء يُذكر حيال هذا الفساد الكنسي لأن الكنيسة كانت تُمسك بيدها منفردة مفاتيح مصائرهم الأبدية. لا أحد سينجو من العذاب ويدخل الجنة إلا عبر اتباع تعاليم الكنيسة، وإلا كان البديل حياة الخُلد في نار جهنم وبئس المصير، أو مدة احتجاز محدودة، لكن ليست أقل فظاعة، في نيران البرزخ (المُطهِّر) حيث يتطهر المرءُ من الذنوب قبل الإذن له بدخول الفردوس في نهاية المطاف. كان يُنظر إلى الجنة والنار والبرزخ (المُطهِّر) باعتبارها من المُسَلمات اليقينية المطلقة بعد الموت، ولما كانت الكنيسة هي التي تسن الأحكام المنظمة لمآلات الروح، لم يكن أمام الناس من مفر إلا أن يلوذوا بالصمت ويتجرعوا في خشوع تصرفات رجال الدين مهما بلغت مرارتها وقسوتها.
كان القداس المسيحي يُتلى باللغة اللاتينية، والإنجيل لاتينياً، والصلوات مثل الصلاة الربية وصلاة مريم تُلقى على الناس ويحفظونها باللاتينية- وهي لغة لم يفهمها أحد من الفلاحين وقليل من النبلاء. ومن ثم كانت خدمة يسوع، كما نَصَّت الأناجيل، امتيازاً حصرياً لرجال الدين الذين ادعوا أن الكنيسة وحدها هي من تملك الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة الإلهية وحق تفسيرها للآخرين.
كانت الكنيسة الكاثوليكية هي الممثل الوحيد المعترف به للمسيحية لهؤلاء الأوربيين غير المنضوين تحت الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية حتى كَسَر الإصلاح البروتستانتي (1517-1648م) هذه السيطرة المطلقة. لكن حتى قبل هذا الإصلاح وفرت ما سُمِّيَت بِدَعْ المهرطقين نافذة هامة لحرية التعبير الديني خارج صندوق التعاليم الكنسية الضيق.
المهرطقون
رغم أن أوروبا كانت من الناحية الاسمية مسيحية أرثوذكسية طوال القرون الوسطى، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور عدد من الطوائف التي شككت في التعاليم الكنسية وسعت إلى ترسيخ تفسيرها الخاص للمسيحية أو، كما في حالة البيلكانيين والبوغوميليين والكاثاريين، التأسيس لمذهب ديني جديد يبني على فرضيات المانوية الفارسية والغنوصية اليونانية والمسيحية. وقد أدانت الكنيسة الكاثوليكية القروسطية جميع هذه الطوائف ورمتها بالتجديف والبِدَعْة والضلال الموصل للكفر والخروج من الملة وسحقتها دون رحمة.
على الرغم من وجود العديد مما يسمى المهرطقون طوال القرون الوسطى، إلا أن ستة طوائف منهم على وجه التحديد كان لها أبلغ الأثر وشكلت مصدر إلهام لما تلاها:
- البيلكانيون
- البوغوميليون
- الكاثاريون
- الولدينيسيون
- اللولارديون
- الهوسيون
كل هذه الطوائف الستة قوبلت بالقمع من الكنيسة، ما أدى في الغالب إلى معاناة ومذابح واسعة النطاق وسط سكان لم يكن لهم ناقة ولا جمل في المعتقدات والحجج الكلامية التي تبنتها هذه الطوائف الضالة، لدى مواصلة الكنيسة الإصرار على سلطتها الروحانية كممثل الرب في الأرض. حسب الكنيسة، التي غَذَّت وأَجَّجت الرعب الكامن في رويتها للجحيم والبرزخ (المُطهِّر)، كان المهرطق لا يعدو كونه شخص مصاب بمرض معدي تعين حجره بعيداً عن عموم الناس لمنع المرض من الانتشار في أثناء مواصلة الجهود لمداواته من مرضه.
اعتمدت هذه الجهود المبدئية على الكلمات- سيجادل الدعاة المهرطقين والمجدفين في الدين بالحسنى لاستعادهم إلى رشدهم والصراط المستقيم- لكن تبين أن المهرطقين كانوا غالباً هم الأقوى حجة والأوسع جدلاً من رجال الدين الكاثوليك، ومن ثم اتُخذت تدابير أكثر جدية، التي ستُفضي في النهاية إلى مآسي من شاكلة الحملة الصليبية الألبينية التي دامت عشرون عاماً (1209-1229) للقضاء على الكاثاريين ومحاكم التفتيش المخزية لملاحقة المهرطقين الضالين من شتى الطوائف خلال القرون الوسطى.
المهرطقون الأوائل ومجمع نيقية
كانت التيارات الدينية المختلفة تُفسر المسيحية بشكل مختلف خلال الفترة من القرن الأول حتى الرابع الميلادي. لكن بعدما تبني قسطنطين العظيم (حكم 306-337م) المسيحية وجعل منها الدين الرسمي للدولة، طالب بتفسير موحَّد للعقيدة الجديدة وكان مجمع نيقية عام 325 المحاولة الأولى نحو هذه الغاية. قبل ذلك كانت تفاسير آريوس السكندري (256-336م) التي نفى فيها- من جملة معتقدات أرثوذكسية أخرى- صحة الثالوث المسيحي تعتبر من صحيح أصول الدين المسيحي مثلها مثل أي تفسير آخر.
من جملة أصول مسيحية أخرى، نفى الإبيونيون خلال القرن الرابع ألوهية المسيح والتزموا بالمعتقد المعروف باسم بِنُوة التبني الإلهي التي بموجبها "تَبَنى" الرب رجلاً بلا خطيئة، يسوع الناصري، من خلال تعميده وموته وبعثه لكنه لم يكن "ابن التبني الإلهي الوحيد". على هذا الأساس ادعى الدوناتيون في شمال أفريقيا خلال القرن الرابع وجوب أن يكون رجال الدين المسيحيين أيضاً بلا خطيئة أسوةً بيسوع وتلامذته، وبالتالي وجب منع أي رجل دين يقع في الخطيئة من إدارة الطقوس أو إقامة القداس.
اعتقد قسطنطين أنه قد تلقى رؤيا من يسوع المسيح مباشرة قبل معركة جسر ميلفيان الحاسمة عام 312 التي هزم فيها خصمه ماكسينتيوس وتولى السلطة كاملة بوصفه الإمبراطور الروماني. وقد ظهر له يسوع بنفس الطريقة التي كان يتجلى بها الآلهة الوثنيون في الماضي وهو ما يبرهن أن المسيح كان إلهاً يتمتع بقوى خارقة. وهكذا لم يكن قسطنطين مهتماً بالتفسير المسيحي الذي نفى ألوهية المسيح ولم يكن ليتسامح حيال ما اعتبره خروج عن صحيح الدين من طرف الدوناتيين أو دعاة بنوة التبني الإلهي من الإبيونيين أو غيرهم. جميع هؤلاء تمت إدانتهم كأصحاب بِدَعْ ومهرطقين في مجمع نيقية وتم تَرسِّيم حدود المعتقد الأرثوذكسي الصحيح.
كان من بين التغييرات الكثيرة التي أسسها مجمع نيقية وضعية الطبقة الثانية للنساء في الكنيسة اللاتي اعتبرن من الآن فصاعداً من العامة الذين يجوز لهن المساعدة في أداء المهام الكنسية لكن لا يمكنهن إلقاء الوعظ أو تقلد مناصب السلطة على الرجال. قبل ذلك، وثقت السجلات حالات كثيرة لنساء ذوات تأثير ونفوذ قوي داخل الكنيسة كان عملهن في أحيان كثيرة يزيد، لا يقل، في أهميته على أي من نظرائهن الذكور. وقد مَثَّلَ استبعاد النساء من مناصب النفوذ والتأثير ببساطة وجهاً آخر لترسيخ الرؤية الأرثوذكسية للمسيحية، إذ بمجرد أن رُسِّمت طريقة واحدة صحيحة لتفسير الدين وممارسته، اعتُبرت أي طريقة أخرى بِدَعْة وضلالة وجب وأدها في مهدها.
الكنيسة والسلطة الدنيوية
جمعت الكنيسة في يدها سلطة دنيوية من خلال وسائل علمانية منذ اعتبر قسطنطين وخلفائه المباشرين أنفسهم حماةً للكنيسة. ولما كانت الكنيسة مَعْفِّية من الضرائب، كان بمقدورها جمع ثروة هائلة؛ وبما أنها طالبت أيضاً بنصيب العُشر من دخل كل مؤمن في صورة زكاة الأعشار، نمت هذه الثروة وتضخمت في صورة أملاك مترامية ونفوذ واسع. ثم خلال القرن الثامن خطت الكنيسة خطوة أخرى لتوطيد مكانتها من خلال عملية تزوير عُرفت باسم "الهبة القسطنطينية" التي زعمت كذباً أن قسطنطين العظيم قد تنازل عن سلطته للبابا الذي تَفَّضَل على الإمبراطور لكي يستمر على عرشه بعدئذٍ بنعمةٍ من البابا. هكذا، وفقاً للكنيسة، تنبع شرعية السلطة الدنيوية فعلياً من البابا ويُعهد بها على سبيل الأمانة فقط لدى أيما عاهل قد يعتلي سدة الحكم في أي وقت.
لا يزال الأثر الفعلي لهذه الوثيقة طيلة القرون الوسطى محل جدل، لكن المفهوم الكامن خلفها- وتدخل الكنيسة المتزايد في إدارة شؤون الدولة- كان جلياً وليس محل شك. لقد شجعت بيبين القصير، ملك الفرنجة (حكم 751-768م) على أن يقدم للكنيسة "هبة بيبين" التي تنازل بموجبها للكنيسة عن الأراضي التي احتلها من اللومبارديين وأنشأت منها الدولة الباباوية. كما كان بمقدور الكنيسة أن تحشد ميليشياتها الخاصة وتشن الحملات العسكرية، وعلى خلفية الادعاء بتمثيل الشرعية التي يستند إليها أي عرش، ابتزاز الملوك لإجبارهم على الامتثال لمصالح الكنيسة.
لقد أقلق تدخل الكنيسة في الشؤون العلمانية قطاعاً واسعاً من العامة وقَلَّبَ ضدها غضب الكثيرين. على سبيل المثال، في إيطاليا القروسطية ثارت طائفتا الغويلفيين والغيبيلينيين خلال القرن الثاني عشر احتجاجاً على نزاع التنصيب (الذي بموجبه كان بمقدور الكنيسة أن تُعين كبار المسؤولين في الدولة من دون التشاور مع الملك). وقف الغويلفيون مع الشرعية الباباوية في حين أخذ الغيبيلينيون صف الإمبراطور الروماني المقدس. لكن رغم ذلك لم يُجاهر الغيبيلينيون أبداً بعدائهم للكنيسة ذاتها، بل فقط ضد ما اعتبروه إساءة استعمال للسلطة، بينما شجبت الطوائف المهرطقة نفاق الكنيسة وثرواتها غير المستحقة وكل مظاهر فسادها الأخرى علاوة على إنكار شرعية الباباوية ورجال الدين، وحتى الأسرار المقدسة.
بِدَعْ الضلال الست المُهلكة في القرون الوسطى
شملت الأسرار المقدسة سر المعمودية، سر التثبيت، سر القربان، سر التوبة، سر الزيجة، سر الكهنوت، وسر مسحة المريض (المعروف أيضاً باسم سر الطقوس الأخيرة). احتاج المرءُ إلى مراعاة هذه الأسرار المقدسة لكي يُعتبر مسيحياً بفضلٍ من الله، وأن تُقام هذه الطقوس بمعرفة رجال الدين الكاثوليك لكي تكون صحيحة. وكانت الكنيسة تتقاضى أجراً مقابل إقامتها لكل طقس من هذه الطقوس، فإذا لم يدفع المرءُ نقداً، لزم عليه أن يتطوع بوقته في خدمة الكنيسة. لكن لم يَفُت عن نظر البعض أن رجال الدين أنفسهم كانوا ينعمون برغد العيش ومنشغلون بجمع الثروات ومظاهر الحياة المترفة أكثر من انشغالهم بخدمة الكنيسة.
كان أي نوع من الشكوى ضد تصرفاتهم الشخصية المستفزة يعد انتقاداً للكنيسة ذاتها وما كان ليمر مرور الكرام. لأن الإقرار بصحة أي انتقاد كان من شأنه أن يستلزم الإصلاح، الذي لم يكن للكنيسة أي مصلحة فيه. مع ذلك، كانت هناك شخصيات بارزة من رجال الدين أنفسهم ممن رفعوا بالفعل أصواتهم بالدعوة لمحاسبة الكنيسة، من نوعية الكاهن والعالم بيتر أبيلارد (1079-1142م) الذي طالب بوجوب تطبيق المنهج الجدلي (الممارسة الخاصة بتقصي صدق الفرضية بطريقة عقلانية) ليس على الأسرار المقدسة الكنسية فحسب بل على السياسات الكنسية وحتى على الإنجيل ذاته. كان مصير أبيلارد الإدانة كمهرطق، وحُرقت كتبه، وأُجبر على التراجع عن آرائه والتوبة.
لكن كان هناك مهرطقون آخرون رفعوا قضيتهم إلى العامة الذين أقبلوا في أحيان كثيرة على تبني هذه الأفكار الجديدة قبل أن تسحقهم الكنيسة. وكانت طبقة النبلاء على وجه التحديد هي التي رحبت ببديل للكنيسة الكاثوليكية على أمل أن أي مؤسسة أياً ما كانت تتمكن من تخليصهم منها ستكون أقل تدخلاً في شؤونهم الخاصة. وقد بدأت أنظمة الاعتقاد الستة الآتية كردود أفعال على فساد الكنيسة وبلورت رؤيتها الخاصة عن الروحانية والمقدس.
البيلكانيون (من القرن السابع حتى التاسع) هم طائفة تأسست في أمريكا على يد قسطنطين سيلفانوس (توفي في 684) شجعت التواصل المباشر مع الرب من خلال الصلاة. انصبت دعوتهم على العودة إلى البساطة والمشاركة العامة السائدة في صدر المسيحية كما عكستها حياة القديس بولس (حوالي 5 - 67م). لم يبنوا كنائس واجتمعوا في بيوت الأنصار التي أسموها "بيوت الصلاة". كانوا عقيدة ازدواجية، يؤمنون بمعبودين أكبرين (واحد خير، والآخر شر) في صراع دائم فيما بينهما ورفضوا ألوهية المسيح وتقديس مريم علاوة على الأسرار المقدسة والتنظيم الهرمي للكنيسة. ورفضوا بالكامل مفهوم الوساطة الكهنوتية التي قضت باستحالة الاتصال بالله من دون تدخل كاهن كاثوليكي مُفوض. بناء على أمر من الكنيسة، تم رجم قسطنطين سيلفانوس بالحجارة حتى الموت، وفيما بعد تم حرق الكثيرين من أتباعه على خلفية اتهامهم بالبِدَعْة والهرطقة أو تم إبعادهم عن أماكن إقامتهم أملاً في أن يساعد ذلك في إصلاحهم. وقد أسهم من كُتبت له النجاة منهم في ميلاد بِدَعْة البوغوميليين، أو على الأقل التأثير عليها.
البوغوميليون (القرن الحادي عشر) هم طائفة دينية تشكلت في منطقة البلقان يعود اسمها إلى أصل سلافي والأرجح أنه يعني "الذين اختارهم الله". كما كان البوغوميليون طائفة ازدواجية لكنها زادت من تطوير هذا المفهوم إلى مستويات أكثر نضجاً. اعتقدوا أن العالم الدنيوي ينتمي إلى إله شرير والغرض من الحياة يتمثل في التغلب على إغراءات هذا العالم وتحرير المرء لنفسه من قيود وشهوات الجسد بغية العودة إلى نقاء مملكة الطُهر الربانية. واتبعوا مبادئ القديس بوليس في إنكار ألوهية المسيح وصحة الأسرار المقدسة والتنظيم الهرمي للكنيسة، لكنهم أضافوا إلى عقيدتهم عناصر أكثر مانوية علاوة على بعض الجوانب من الغنوصية اليونانية. كانوا دائماً محل اضطهاد من الكنيسة التي حاولت محوهم من الوجود عبر عدد من الحملات الصليبية، لكن نجت فرضياتهم وهياكلهم التنظيمية الأساسية لكي تترك أثرها على بِدَعْة الضلال الأشهر خلال القرون الوسطى: الكاثارية.
الكاثاريون (من القرن الحادي عشر حتى الثالث عشر، مشتق من التعبير اليوناني عن "المتطهرون"، ويعرفون أيضاً باسم الألبيجينيين لارتباطهم بمدنية الألبي) هم طائفة في جنوب فرنسا اتبعت نفس المعتقدات الأساسية للبوغوميليين، لكنهم، مثل هؤلاء والبيلكانيين من قبل، طوروا هذه المفاهيم أكثر. كان الكاثاريون ازدواجيين وغنوصيين أيضاً لكنهم قدسوا المبدأ الإلهي الأنثوي صوفيا (الحكمة) التي ادعوا أن الكنيسة اختطفتها وحَرَّفَت رسالتها. اشتهر رجال الدين الكاثاريين باسم "الكٌمَّل" والمؤمنين بدعوتهم باسم "الصديقين". وكانت هناك أيضاً مجموعة ثالثة من المتعاطفين والمؤلفة قلوبهم ممن كانوا من الناحية الاسمية كاثوليك. وقد خدم الرجال كما النساء في وظيفة "الكٌمَّل" التي استلزمت منهم التعفف ونظام غذائي نباتي والعيش على الكفاف، في تعارض صارخ مع رجال الدين الكاثوليك. ويعتقد بعض الباحثين أن معتقداتهم قد تأثرت بظهور جنس الشعر الفرنسي الخاص بالحب النبيل حيث ارتبطوا بسيدتين كانتا جزء لا يتجزأ من هذا الجنس الأدبي، إليانور آكيتين (1122-1204م) وابنتها ماري دي شامباني (1145-1198م). وقد قمعتهم الكنيسة في الحملة الصليبية الألبيجينية.
الولدينيسيون (القرن الثاني عشر) هم طائفة مميزة عن الثلاثة السابقة، تأسست في حوالي عام 1177م على يد بيتر والدو (1140-1205) بمدينة ليون الفرنسية. كان والدو تاجراً ثرياً، وفي مسعاه لإقامة علاقة أوثق مع الله تقوم على تعليمات المسيح، تخلى عن ثروته وأخذ يعظ بمذهب البساطة والفقر وخدمة الآخرين. وقبل توزيع ثروته على المحتاجين، دفع لترجمة الإنجيل إلى اللغة الپروفانسيّة، لغته المحلية، وأخذ يعظ برسالة المسيح مباشرة من تلك الترجمة. أدان والدو وأتباعه الأوجه الدنيوية للكنيسة- بالأخص "هبة قسطنطين" التي شعروا أنها كانت تناقض تعليمات المسيح تناقضاً تاماً- علاوة على إنكار صحة الأسرار المقدسة (عدا سر المعمودية وسر القربان)، ووجود البرزخ (المُطَّهر)، وتقديس القديسين ومريم العذراء. وعندما استنجد والدو بالبابا ألكسندر الثالث (تقلد البابوية 1159-1181) في عام 1179 لشرح دعوته، لم يُعتبر مهرطقاً واكتُفي فقط بمنعه من الوعظ. لكن تمت إدانة الولدينيسيون فيما بعد على خلفية انتقاداتهم للكنيسة، واتُهموا بالبِدْعَة والهرطقة، ولاذوا بالفرار إلى جبال إيطالياً هرباً من الملاحقة والاضطهاد.
اللولارديون (القرن الرابع عشر) هم أتباع القس والفيلسوف وأستاذ أكسفورد الإنجليزي جون ويكليف (1330-1384) الذي دعي إلى الإصلاح الجذري للكنيسة. وربما اسمهم مُشتق من اللفظة التهكمية التي وصفهم بها منتقدوهم من كلمة هولندية تُطلق على الشخص الذي يتمتم بالأدعية. وقد تَدبر جون ويكليف ترجمة الإنجيل من اللاتينية إلى الإنجليزية الوسطى، ليمنح أي شخص القدرة على تلاوته بالعامية. كما حظي ويكليف بحماية جامعة أكسفورد بموجب حرية التعبير الأكاديمية، لكن بعد ثورة الفلاحين في عام 1381، التي ضمت قيادتها فلاح بارز واحد على الأقل ينتمي إلى اللولارديين، تعرضت الطائفة للاضطهاد من قبل الكنيسة والدولة على حد سواء. وفي عام 1395، أصدر اللولارديون وثيقتهم "استنتاجات اللولارديين الاثنا عشرة" التي أدانت، من جملة ممارسات وسياسات كنسية أخرى، تدخل الكنيسة في الشؤون الدنيوية للدولة، العزوبية الكهنوتية، الوساطة الكهنوتية، دفع المال نظير الصلاة على الميت، الحملات الصليبية، سِر القُربان المُقدّس، تقديس رفات القديسين، وفريضة الحج. وتعرضوا للاضطهاد طوال القرن الخامس عشر لكنهم نجوا كحركة سرية وعاودوا الظهور في صورة طائفة مرموقة بعد الإصلاح الإنجليزي.
الهوسيون (القرن الخامس عشر فصاعداً) هم أتباع الفيلسوف والفقيه اللاهوتي جان هوس (1369-1415م)، عميد جامعة تشارلز في براغ، الذي تأثر بعمل ويكليف وبدعوته للإصلاح الديني. كان هوس وأتباعه يقتبسون كثيراً من كتابات ويكليف- التي كانت الكنيسة تحظرها في مملكة بوهيميا- وبنوا دعوتهم على نفس منطلقات دعوته. لم يُعتبر هوس مهرطقاً إلا بعد اعتراضه على بيع صكوك الغفران- مكاتيب تُشترى من الكنيسة يُدعى أنها تُقَصِّر المدة التي يقضيها المرء في البرزخ (المُطَّهر)- التي سبق وعارضها ويكليف بقوة أيضاً. قُدِّم هوس إلى المحاكمة بسبب مواقفه وملاحظات أخرى زُعِم أنه أدلى بها وحُرق في المحرقة عام 1415م. وأشعلت وفاته حروب الهوسيين خلال الفترة 1419 و1434م بين الهوسيين والقوات الموالية للكنيسة الكاثوليكية. وقد نجا الهوسيون من هذه الحملات الصليبية ضدهم، ومثل اللولارديين رُد إليهم اعتبارهم أثناء الإصلاح البروتستانتي.
الخاتمة
قد يجد القارئ في عصرنا الحالي صعوبة في فهم لماذا لم يبادر شخص ما بجهود الإصلاح الجاد من زمن أبكر. الإجابة، كما أشرنا أعلاه، هي الاحتكار الكامل الذي وضعته الكنيسة على الخيال الديني للناس في أوروبا. من السهل على المرء العودة بالنظر ومعرفة ما كان ينبغي فعله بطريقة مختلفة ومتى، لكن حتى في الحياة الشخصية لأي منا، من الصعب جداً في العادة أن نعرف ما يلزمنا القيام به وكيف نُنَفذه.
على خلاف الناس في الحقبة الحديثة، كانت خيارات التعبير الروحاني محدودة أمام نظرائنا في القرون الوسطى. ما كان يُتَصور أن يعتنق فلاح فرنسي الإسلام بينما دأبت كنيسته على نعت المسلمين باستمرار "أبالسة" وحتى أقل ترجيحاً أن يتحول إلى اليهودية وهو قد تربى على تعليمات الكنيسة التي تنعت اليهود "قتلة المسيح"- رغم اعتناق بعض المسيحيين لليهودية. إذا نحينا جانباً الخيارات الأخرى، كانت فكرة الجحيم بحد ذاتها- حياة أبدية في نار مستعرة وعذاب لا ينتهي- تجعل الخلاص الروحاني للمرء على نفس القدر من الأهمية مثل مأكله ومشربه اليومي.
لقد خلقت الكنيسة سكاناً ما كانوا يتخيلون وجودهم من دونها، وعلى الرغم من أن رؤيتها البكر كانت مفيدة وقدمت عدداً من الخدمات الهامة للناس، إلا أنها أساءت استعمال سلطتها وسحقت أي انشقاق. ولم يتحقق إلا من خلال المجهودات المخلصة لأشخاص شجعان على نحو خارق للعادة، مقترنة مع روح أزمنة ما عادت تطيق بعد الصبر على فساد الكنيسة وتحمل وحشيتها، أن انطلق قطار الإصلاح البروتستانتي وانكسرت قوة الكنيسة القروسطية.