كان ابن سينا والبيروني من أبرز العلماء البارعين الذين عاشوا بين اليونان القديمة وعصر النهضة الأوروبية. ولدت هاتان الشخصيتان العظيمتان في حقبة ضائعة من عصر التنوير في آسيا الوسطى حوالي عام 980. وعلى مدى ستمائة عام حددت موسوعة القانون في الطب لابن سينا مجال الطب من أوروبا إلى الهند، في حين أن أفكاره التي كانت تتمحور حول الله والفلسفة أثرت على المسلمين واليهود والمسيحيين بما في ذلك القديس توما الأكويني أو كما يعرف بـ توماس أكويناس.
أما بالنسبة للبيروني، فقد قاس قطر الأرض بشكل أكثر دقة من أي شخص آخر قبل القرن السابع عشر وافترض أن وجود أمريكا الشمالية والجنوبية كقارتين مأهولتين واخترع أول نظام لحساب التواريخ عالميًا.
العباقرة المنسيون؟
على الرغم من إنجازاتهما، إلا أن أسماءهما لم تصبح مألوفة عند الجمهور لأسباب عدة. واحدة من هذه الأسباب هي أسماؤهما التي تكون معقدة بشكل محير عند ترجمتها من اللغة العربية: أبو علي الحسين بن عبد الله ابن سينا، وأبو الريحان محمد بن أحمد البيروني. قام مترجمو العصور الوسطى الغربيين اللاتينيين اسم ابن سينا إلى أفيسينا. ومن هؤلاء الأوروبيين في العصور الوسطى الذين سمعوا عن البيروني استحضروا عدة نسخ لاتينية لاسمه وأشهرها كانت ألبيرونيوس.
على الرغم من أسمائهما إلا أنه لم يكن أي منهما عربي. أصبح كلاهما معروفا بأسمائهما العربية لأنهما كتبا أساسا باللغة العربية وهي لغة التعلم في العالم الإسلامي تماما كما كانت اللاتينية في الغرب. ولد كل من ابن سينا والبيروني داخل حدود ما يعرف الآن بأوزبكستان. وقضوا حياتهما فيما يعرف الآن بأوزبكستان وتركمانستان، وأفغانستان، وإيران، وباكستان.
على الرغم من عدم شهرتهما وغموضهما لعامة الناس إلا أن الأدب العلمي عج بالثناء على هذين الرجلين. تمت الإشادة ب البيروني باعتباره "دافنشي للقرن الحادي عشر" "أحد أعظم العلماء في كل العصور" "رائد عصر النهضة"، "ظاهرة من ظواهر تاريخ التعلم الشرقي"، "أحد عباقرة العالم"، وببساطة "السيد العظيم". في عام 1927 أعلن جورج سارتون الكيميائي والمؤرخ البلجيكي الأصل الذي ابتكر طريقة في الدراسة المنهجية لتاريخ العلوم عنه قائلا: "إنه أرقى نصبا تذكاريا للتعليم الإسلامي."
Book Promotion
The Genius of their Age - Ibn Sina, Biruni, and the Lost Enlightenment
Starr's book is the first in-depth synthetical biographical treatment of the contemporaries Biruni and Ibn Sina and their place in the history of ideas. It explores the roots and reveals the heights of Islamic intellectual achievement, evoking a golden age of Islamic Enlightenment.بالمثل، تم تمجيد سينا بوصفه "السيد البارز"، و "أمير الأطباء"، و "بلا منازع الأكثر تأثيرا بين الفلاسفة الإسلاميين"، و "ربما كان أكثر الفلاسفة تأثيرا في حقبة ما قبل الحداثة." أثنى عليه أكثر من مؤرخ أوروبي باعتباره "أبا للطب الحديث" بينما أطلق عليه نظراءه في العالم الشرقي لقب "زعيم الحكماء"، بل وحتى "برهان الله."
الإنجازات
لطالما كان العلماء يعملون في هذا المجال. كان معظمهم إن لم يكن جميعهم، أبطالا لواحد أو آخر، كانوا من مؤيدي البيروني وابن سينا، ولكن قليلين كانوا مؤيدين لكليهما. في عملية الدفاع عن بطلهم، قدموا قائمة قوية من الادعاءات المتعلقة بتفوقهم. يقال إن البيروني، على سبيل المثال، أسس كل من علم الفلك وقياس المثلثات كمجالات استقصاء مستقلة وطور مجال علم المثلثات الكروي. قلة هم الذين تجاوزوه في التأكيد على أن الرياضيات يمكن أن تمثل الواقع بدقة. باستخدام صيغة لم تظهر مرة أخرى حتى القرن السابع عشر ابتكر المثال الأول لحساب التفاضل والتكامل للاختلافات المحدودة. بمساعدة أدوات بسيطة، ولكنها متطورة للغاية من تصميمه الخاص، بالإضافة إلى منهجيات جديدة في الهندسة وحساب التفاضل والتكامل، يدعي أبطاله العلماء أنه قام بقياس أقطار الأرض والقمر بدقة أكبر من أي شخصا آخر حتى القرن السابع عشر. كما يزعمون أنه استخدم نفس الطريقة المبتكرة لتوسيع معايير العالم المعروف وحتى أفترض وجود أمريكا الشمالية والجنوبية كقارتين مأهولتين.
هؤلاء الداعمون ينسبون أيضًا الفضل إلى البيروني في اختراع مفهوم الجاذبية النوعية وزن المعادن بدرجة من الدقة لم يتم تجاوزها حتى العصر الحديث. وبالإضافة إلى ذلك، قاد تطور مجالي الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الاجتماع ووسع بشكل كبير دراسة تاريخ العلوم وعلم سكون الموائع والدراسات المقارنة في الدين. يُقال إن أحد العلماء قد جادل بأنه كان أول من قدم فلسفة اليوغا الهندية إلى الشرق الأوسط والعالم الغربي. ويُؤكد عدة متخصصين إلى أنه اخترع مفهوم الزمن العالمي المتكامل وتاريخ العالم وسبق الأوروبيين في عصر النهضة في بناء نموذج للعالم وفي تقديم نظرية لعلم المحيطات. جمعت ابتكاراته في جميع هذه المجالات بين الرياضيات المتطورة وتقدير تأثير اللغة والدين والثقافة على حياة الإنسان.
أما بالنسبة لابن سينا، يجادل مؤيدوه بأنه لم يفعل شيئا أقل من إنشاء إطارا فكريا متكاملا وشاملا يضم الفلسفة، والعلم، والطب، والدين. عن طريق المنطق التعديلي، أعاد تشكيل توليفة أرسطو الكبرى لجميع المعارف وبطريقة أكدت وجود مكان للإيمان الديني سواء كان ديانته وهو الإسلام أو الأديان الأخرى في الكتاب. كما ينسب إليه الفضل في كونه مؤسسا للفلسفة المدرسية. علاوة على ذلك جادل خبراء في فكر العصور الوسطى بأنه في محاولته لشرح طبيعة الخلق نفسه، اعتمد القديس توما الأكويني على ابن سينا مباشرة. ويجادل كثير أيضا بأن ابن سينا ساهم في مجالات متنوعة مثل علم الجيولوجيا والرياضيات، وربما قبل كل شيء في الطب.
مؤرخو العلوم قد قدموا مزاعم بأن ابن سينا خلاصة لكل المعرفة الطبية المعروفة ونظمها في إطار واحد، منطقي وسهل الوصول. بينما كان "القانون في الطب" واسع النطاق، إلا أنه ركز بشكل خاص على الأسئلة العصبية، ووظيفة الدماغ، والظروف البيئية والنفسية الضرورية لاستعادة الصحة والحفاظ عليها. من بين ابتكاراته العديدة كانت القواعد الدقيقة التي وضعها لإجراء التجارب السريرية للأدوية الجديدة. يُجادل كثير بأن "القانون في الطب" خدم كأساس للتعليم الطبي والممارسة في الشرق الأوسط وأوروبا وبعض مناطق الهند لستة قرون، ويُعتبر عرضة لدى الخبراء بوصفه العمل الأكثر تأثيرًا ودوامًا في تاريخ الطب.
العلم الحديث للمثقفين
هناك مشكلة في دراسة العلماء المتعددين تكمن في أن خبرة معظم المتخصصين الحديثين نادراً ما تتجاوز مجالين أو اثنين من التخصصات ذات الصلة. وعلاوة على ذلك، الوضع الحالي لمعرفتنا بحياتهم يمنعنا من تقديم صور نهائية. على سبيل المثال، كان كل من البيروني وابن سينا في مراحل معينة من حياتهم يعملون ككبار رجال الدولة وصانعي السياسات والمفكرين الاستراتيجيين. ومع ذلك، تم تدمير جميع الوثائق الرسمية التي وثقت أنشطتهم قرونًا مضت أو فُقدت نتيجة الإهمال.
ومع ذلك، فإن ما نعرفه هو أن حياة هذين المفكرين كانت مليئة بالأحداث المثيرة والأزمات والإنجازات المذهلة. وبفصلنا عن عالمهم بألفية، إلا أننا نملك الكثير للاستفادة من تأمل حياتهما وأعمالهما في الوقت الحاضر. قصة ابن سينا والبيروني تتجاوز القرون، مقدمة رؤى حول جهودهما الدؤوبة لتوسيع مجال المعرفة البشرية، وفي منطقة من العالم تثير في الوقت الحالي أحيانًا مخاوف حول دور التعليم المتقدم والعلم. من اللازم أن تؤدي هاتان الشخصيتان الكبيرتان دورًا في مثل هذه المناقشات بعد مرور ألف سنة على وفاتهما، ففي النهاية على الرغم من عبقرياتهما في ذلك العصر، إلا أنهما يرتقيان فوق الزمان والمكان والدين والسياسة ليقفا كمواطنين في عالم الأفكار العالمي وعظماء الإنجاز البشري
