معاداة السامية هو مصطلح حديث يصف التَحَامُل والعداء لليهود واليهودية. اشتق هذا المصطلح من التصنيف العلمي الاجتماعي اللاحق لعائلة اللغات "الأفروآسيوية" وهي (العبرية، الآرامية، العربية، والأمهرية)، وهو أيضًا وصف لشعوب هذه المناطق في قائمة الأمم المنحدرة من نسل سام الابن الأكبر لنوح، في سفر التكوين الإصحاح العاشر، ومع ذلك، فإن الاستخدام الأكثر شيوعًا لمعاداة السامية يتعلق باليهود واليهودية.
إن التصنيفات الأنثروبولوجية والعضوية الحديثة التي تحدد السلالات الآن لم تكن موجودة في العالم القديم. أُدخلت هذه التصنيفات في جانب معاداة السامية في العصور الوسطى. نشأ النقد السياسي بدايًة مع الحركة الصهيونية في القرن الثامن عشر، التي أسفرت عن قيام دولة إسرائيل المستقلة، تراكم ما أصبح معاداة المسيحية للسامية على مدى قرون عدّة، لكن أساس وجهات النظر المعادية للسامية يظل مُنْطَمِرٌ في قصة الواعظ اليهودي المتجول "يسوع الناصري" في مقاطعة يهودا الرومانية في القرن الأول. رويت قصته فيمَا أصبح بعد ذلك الأناجيل ("البشارة") حَسَبَ (مرقس، متى، لوقا، ويوحنا).
الديانات القديمة
لم يكن الدين كمفهوم أو طائفة موجودًا في العالم القديم. عُرِّفَت الشعوب القديمة عن طريق مجموعاتها العرقية (ethnos باليونانية، "الأمم") التي تشترك في رابطة الدَّم (النسب)، اللغة، الجغرافيا، الأساطير، والشعائر. حُفِظَت تقاليد الأجداد في قوانين (العهود والعقود) من أجل سلوكيات الفرد، أدوار الجنسين، وأشكال الحكم، وحُوفِظ على التوازن بين البشر والإله بواسطة الصلوات والشعائر.
كان اليهود مجموعة عرقية تتميز عن جيرانها بعنصرين إضافيين:
- كان لليهود علامات هُوِيَّة منفصلة: (الختان، القوانين الغذائية، وشعائر السبت).
- مُنع اليهود من عبادة آلهة أخرى، ومع ذلك، لم يكن اليهود القدماء موحدين بالمعنى الحديث.
تصور اليهود وجود تسلسل هرمي للقوى في السماء، وتشير النصوص اليهودية باستمرار إلى وجود آلهة للأمم، خلقها إله إسرائيل، الذي "اَللهُ قَائِمٌ فِي مَجْمَعِ اللهِ. فِي وَسْطِ الآلِهَةِ يَقْضِي". (مزمور 1:82) ظهرت القصة الأساسية لفكرة التوحيد اليهودي عندما تلقى موسى وصايا الله على جبل سيناء. تنص أول وصيتين من الوصايا العشر على ما يلي:
"أَنَا هُوَ الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا صُورَةً مَّا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ". (تثنية 5: 6-9)
كانت العبادة في العالم القديم تعني دائمًا التضحيات. كان بإمكان اليهود أن يصلوا إلى الملائكة والقوى الأخرى في السماء، لكن تقديم الذبائح (الحيوانات، الخضراوات، وطقس إراقة الشراب) كانت حكرًا على لإله إسرائيل.
كانت الأمم (غير اليهود)، قبل ظهور المسيحية، ينتقدون في كثير من الأحيان تلك العادات اليهودية، حيث عدّ رفض اليهود المشاركة في المئات من التضحيات والمهرجانات الدينية المحلية أمرًا كارهًا، مبغِضًا، ومحتقرًا لبقية الجنس البشري وللأخلاق العامة للمجتمع. ونحن نصف هذه الأدبيات بأنها "معادية لليهودية" وليس معادية للسامية.
تاريخ اليهود
عانى اليهود طوال تاريخهم الطويل من عدة كوارث وطنية، مثل غزو مملكة إسرائيل الشمالية عام 722 ق.م وغزو الإمبراطورية البابلية عام 587 ق.م، وتدميرهم لهيكل سليمان الأول، أطلق كورش الكبير (المتوفى عام 530 ق.م) عند صعود الإمبراطورية الأخمينية الفارسية سراح اليهود الذين تم أسرهم في بابل وعادوا لإعادة بناء الهيكل.
فسر أنبياء إسرائيل هذه الكوارث على أنها عقاب الله لإسرائيل بسبب عبادة الأوثان وإهمال وصاياه، وفي الوقت نفسه، قدموا رسالة أمل بأن الله سيتدخل في تاريخ البشرية مجددًا، في "الأيام الأخيرة"، ويقيم مملكته على الأرض، جنة عدن الأصلية. سيبدأ هذا ببعث المسيح ("الممسوح بالزيت المقدس") الذي من نسل الملك داود، عندها سيعيد الله أمة إسرائيل إلى مجدها السابق.
اتخذ الملك أنطيوخوس الرابع الظاهر السلوقي (حكم من 175 إلى 164 ق.م) خطوة غير مسبوقة خلال غزوه إسرائيل عام 167 ق.م، بحظر عادات اليهود وتدنيس الهيكل، فقامت ثورة المكابيين بقيادة الحشمونيين بطرد السلوقيين، ولكن لم يوافق اليهود جميعهم على حكم الحشمونيين الذين جمعوا منصب الملك مع منصب رئيس الكهنة، وشهدت هذه الحِقْبَة ظهور الطوائف اليهودية.
غادرت طائفة الأسينين القدس واستقروا على طول شاطئ البحر المَيْت في انتظار تدخل الله وخلفوا لنا مخطوطات البحر المَيْت. لدينا في هذا التراث مفهوم تجسيد الشر في الآخرين، بما في ذلك اليهود الآخرون، الذين اختلفوا مع آرائهم. كان لطائفة الصدوقيين ينتمون إلى المؤسسة الكهنوتية وكانوا مسؤولين عن صيانة الهيكل، في حين روجت طائفة الفريسيين لفكرة أن اليهود جميعهم يجب أن يعيشوا وفقًا للتقاليد الكهنوتية في سفر اللاويين، لكن طائفة الزيلوت "الغيورون" ادعت أن الله وحده هو الذي يجب أن يكون ملكهم. كانت طبيعة هذه الجماعات الطائفية أنها تنتقد كل من لا يتفق مع وجهات نظرها الخاصة، ولكن لم تكن لطائفة واحدة منهم سلطة على أي طائفة أخرى.
السياق التاريخي للأناجيل
غزت روما القدس، في عام 63 ق.م، بقيادة بومبيوس الكبير (106-48 ق.م)، الذي نصب الهيروديين كملوك عملاء، وبعد سلسلة من الحكام الرومان غير الأكْفاء والفاسدين في القرن الأول الميلادي، اندلعت الثورة اليهودية الكبرى عام 66م، مما أدى إلى تدمير الهيكل الثاني في عام 70م. وهذا هو بداية سياق الأناجيل، بدءًا من مرقس.
بدأ الواعظ اليهودي المتجول، "يسوع الناصري"، في عشرينيات والثلاثينيات القرن الأول الميلادي، يعلن أن "ملكوت الله" كما تنبأ الأنبياء أصبح وشيكًا. أكدت الاقتباسات والتلميحات إلى التاريخ اليهودي، شريعة موسى، والأنبياء صحة الادعاءات المتعلقة بــ"يسوع"، وأولئك الذين اتبعوا تعاليمه أصبحوا طائفة أخرى من المؤمنين اليهود.
كُتب إنجيل مرقس بعد حوالي جيل من وفاة "يسوع" التاريخي، وتلاه متى، لوقا، وأخيرًا يوحنا، وهي ليست أربع مصادر مستقلة، وليس لدينا شهادة شهود عيان مكتوبة على أحداثهم؛ كما لم تنج أي سجلات معاصرة لتلك الأحداث، فلم يترك "يسوع" كتابات، وتلك الأناجيل لم يكتبها تلاميذ "يسوع".
كان على مرقس أن يعالج ثلاث مشكلات رئيسية:
- لم يؤد دور "يسوع" بصفته المسيح إلى إحياء أمة إسرائيل؛ ولا يزال اليهود يعانون الاحتلال الروماني.
- كان عدد الأمم (الوثنيين السابقين) في الحركة المسيحية الجديدة أكبر من عدد اليهود بحلول الوقت الذي كتب فيه مرقس.
- مات "يسوع" بالصلب، وهي العقوبة الرومانية بتهمة الخيانة.
بُررت المشكلة الأولى عن طريق مفهوم مبكر يُعرف باسم "Parousia" ("المجيء الثاني للمسيح")، حيث قام "يسوع" من بين الأموات ورُفِع إلى السماء، ولكنه سيعود إلى الأرض في وقت لاحق. أما المشكلة الثانية فقد تُنُووِلَت في مرقس (4: 10-11)، عندما سأل التلاميذ "يسوع" لماذا كان يعلم بالأمثال، قال لهم:
"فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ". مرقس (4: 11-12)
كان هناك سطر من النبي إشعياء، وبخ فيه اليهود بسبب انغماسهم في الخطية، وبعبارة أخرى، كان "يسوع" نفسه، الذي تمم إشعياء، هو الذي حالَ غالبية اليهود دُونَ الإيمان، وبالنسبة لمعظم اليهود، كان المسيح، من نسل الملك داود، ووراث صفات، الملك المحارب، الذي يقضي على أعداء الأمة، أما المسيح الذي تعرض للتعذيب ثم مات لن يساعد القضية اليهودية كثيرًا. ادعى أحد المسيحيين الأوائل أن العهد القديم تنبأ في الواقع بهذا المسيح في إشعياء (49-53)، وهي مجموعة من المقاطع المعروفة باسم "مقاطع الخادم المتألم". تعرض هذا "العبد المتألم" للاضطهاد والتعذيب، ومات، ثم قام من بين الأموات ووضع بجوار الله على عرشه، في السياق التاريخي لإشعياء، كان "العبد" يمثل أمة إسرائيل التي تعاني، لكن المسيحيين الآن يزعمون أن إشعياء كان يتنبأ بــ"يسوع الناصري".
تُنُووِل الموت بالصلب في قصة مرقس عن المحاكمات الباطلة لرؤساء كهنة اليهود التي أدت إلى موت "يسوع". اضطر مرقس إلى التمييز بين يهوده ويهود الثورة الأخيرة؛ وعلى الرغم من حقيقة الصلب، لم يكن "يسوع" خائنًا لروما، فضمنيًا، أتباعه ليسوا مذنبين بالخيانة أيضًا. لقد ابتكر مرقس النموذج القائل بأن "يسوع" مات بسبب الاختلافات الدينية بين اليهود وليس بسبب سياسة الإمبراطورية الرومانية.
الطوائف اليهودية والصراعات
ادعى مرقس أن "يسوع" منذ بداية خدمته، تعرض للمضايقة والاضطهاد، ووضع ذلك في إنجيله بنمط "الصراع حواري" بين "يسوع" والفريسيين، الذين اتهموه بانتهاك شريعة موسى. لا يمكننا التحقق من المحادثات الفعلية في هذه القصص، لكنها ذات مصداقية بمعنى أن مناقشات الطوائف اليهودية بينها البعض كانت جديرة بالملاحظة. لقد أصبح الفريسيون في الأناجيل بمنزلة الخريطة التي توضح تعاليم "يسوع".
استخدم جميع كتاب العالم القديم الأدوات الأدبية مثل: الجدل، الهجوم المكتوب أو اللفظي المستخدم لتمييز وجهات نظر الفرد عن الآخرين أو آراء مجموعة من الثقافة السائدة. الأناجيل كلها تتهم الفريسيين بشكل جدلي بقمع الشعب ومنع خلاص الجميع، لكن اليهود لم يتصوروا "الخلاص" بالطريقة نفسها التي أصبحت بعد ذلك عقيدة مسيحية، بل كان تركيز اليهود على الاستعادة المتوقعة لمجد أمة إسرائيل. إن الادعاء بأن موت المسيح كان بمنزلة ذبيحة كفارة لمغفرة الخطايا، وُضِّح أول مرة في رسالة بولس إلى أهل رومية (حوالي 50-60 م). لقد اتُهم الفريسيون بتعمد حجب مفهوم لم يكن لديهم.
تزعم الروايات المسيحية اللاحقة أن الفريسيين كان لديهم قواعد وطقوس صارمة، لكننا نفتقر إلى أدلة ذلك الزعم العائدة للقرن الأول؛ ولم تبق أي كتابات للفريسين، باستثناء بولس الرسول، الذي أصبح مؤمنًا بالمسيحية المبكرة، سرديًا، تنظر الأناجيل إلى الحِقْبَة السابقة من خدمة "يسوع". ومع ذلك، فإن النقد الجدلي لعبادة الهيكل لم يعد قابلًا للتطبيق في وقت كتابتهم.
اتهم الفريسيون "يسوع" في الأناجيل، باستمرار بتناول العشاء مع العشارين والخطاه، كان الافتراض التقليدي هو أن "العشارين" ربما كانوا من الأمم (ينتهكون القوانين الغذائية) وأن "الخطاة" كانوا عاهرات، ومع ذلك، فإن هذا السلوك لم ينتهك أي قواعد طهارة في سفر اللاويين، فكان اليهود والأمم يتناولون العشاء معًا في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، ولم تكن الدعارة في منطقة البحر المتوسط القديمة خطيئة.
أهم علامات التفكك في الأناجيل هو أن اتهامات الفريسيين ضد "يسوع" لم تنتهك شريعة موسى، ولم تكن خطيئة أن تدعي أنك المسيح. لدينا قصص من كتابات المؤرخ اليهودي "يوسيفوس فلافيوس" (36-100 م)، عن العديد من الشخصيات ادعت أنها المسيح في القرن الأول وأثارت الحشود بشكل دوري وتسببت في اضطرابات في الأعياد اليهودية ودعت الله إلى إظهار مملكته الآن، لم يتم إعدام أي من هؤلاء الأشخاص على يد اليهود بل على يد روما. قام الجيش الروماني بإلقاء القبض على مدعي المسيح وأتباعه وإعدامهم بالصلب، فليس هناك سوى مملكة واحدة وهي: روما.
حادثة الهيكل
دخل "يسوع" إلى الهيكل، بعد دخوله أورشليم في عيد الفصح:
"وَجَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ “يسوع” الْهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَّبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ. وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَجْتَازُ الْهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلًا لَهُمْ: أَلَيْسَ مَكْتُوبًا: بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ". (مرقس 11: 15-17)
هذا مشهد قوي بشكل مدهش في إنجيل مرقس، ويظل عنصرًا أساسيًا في العلاقات اليهودية المسيحية، فيري للمسيحيين، أنه لخص ما هو الخطأ في اليهودية. وهي مهمة في رواية مرقس لأنه ادعى أن هذه الحادثة هي التي أدت إلى محاكمة وصلب "يسوع الناصري". وهذا أيضًا هو الأساس المنطقي لادعاء مرقس أن هذا الفساد أدى في نهاية الأمر إلى تدمير الهيكل على يد روما.
كانت الهياكل تمتلك مزارع خارج المدن لتربية حيوانات الأضاحي، لكن اليهود اشترطوا أن تكون بلا دنس. كان لدى الطرف الجنوبي من جبل الهيكل منطقة تعرف باسم "رواق سليمان"، وهي قَنطَرَة يمكن شراء الحيوانات منها، وهو وسيلة راحة للحجاج الذين لن يخاطروا بـ "التدنيس" عن طريق جر الحيوانات لمسافات طويلة. وكانت هذه المنطقة بجوار بلاط الأمم، حيث كان بإمكان غير اليهود تقديم التضحيات في الهيكل، وقد فعلوا ذلك فعلًا، ومما اختلف فيه هذا المعبد عن غيره هو وجود الصرافين. وبما أن اليهود حظروا الصور، كان لا بد من استبدال العملات المعدنية التي تحمل صور الآلهة والأباطرة بعملات يهودية، وفي الوقت نفسه، كان الرجال اليهود يدفعون ضريبة للهيكل نصف شيكل كل عام لصيانته. ولا يمكن دفع هذا إلا بنوع محدد من نصف الشيكل المتوفر عند مدخل الهيكل.
ليس لدينا أي دليل قاطع على أن بائعي الحيوانات أو الصرافين كانوا يغشون الناس، في مرقس، تم دمج اقتباس "يسوع" من كل من إشعياء وإرميا. ومع ذلك، فإن اللصوص لا يسرقون من بعضهم البعض في مغارتهم. بل إن "مغارة اللصوص" هي ملاذ آمن يوزعون فيه غنائمهم بعيدًا عن السلطات. انتقد كل من إشعياء وإرميا اليهود لافتراضهم أن الهيكل كان ملاذًا آمنًا حيث يمكنهم تقديم الذبائح، معتقدين أن ذلك سينقذهم من الدينونة القادمة دون توبة حقيقية، لكن لم يقترح أي منهما أبدًا وقف الذبائح والشعائر.
أصبحت حادثة الهيكل النص الأول الذي يؤكد صحة الادعاء المسيحي بأن كلًا من اليهودية والهيكل كانا فاسدين للغاية لدرجة أن الله كان عليه أن يرسل "يسوع" إلى العالم ليخلق دينًا جديدًا، وفي أواخر العصور الوسطى، كان هذا المقطع أيضًا الأساس لاتهام اليهود المعاصرين بخطيئة الربا وحب المال.
هناك العديد من المشكلات التاريخية في محاكمة وصلب "يسوع" في الأناجيل. كان ادعاء مرقس أن محاكمة "يسوع" من قبل اليهود كانت غير قانونية (لعدم اتفاق الشهود) وكان الدافع وراء تلك المحاكمة هو كراهيَة اليهود له منذ البداية. أظهرت المحاكمة أمام بيلاطس البنطي إحجامه عن إدانة "يسوع" لأنه وجده بريئًا، وإعلان القاضي الروماني هذا أزال أي تهمة بالخيانة من قبل أتباعه. هناك خلل آخر في رواية مرقس وهو أن مرقس لم يشرح أبدًا سبب انقلاب اليهود على "يسوع"، على الرغم من ترحيبهم بــ"يسوع" في المدينة قبل ثلاثة أيام كمخلص لهم، انقلبوا الآن ضده وشجعوا بيلاطس على صلبه.
جذور معاداة السامية
أدى تدمير الهيكل إلى القضاء فعليًا على مختلف الطوائف اليهودية. ومن المرجح أن بقايا الفريسيين هم الرجال الذين أسسوا ما أصبح اليهودية الحاخامية في الجليل. وبدون ذبائح الهيكل، أصبحت التوراة محور الحياة اليهودية.
كرر إنجيل متى ولوقا بعد بضعة عقود، نفس الاتهامات الموجهة إلى الفريسيين في مرقس مع تفاصيل إضافية وزيادة في النقد اللاذع، وفي تكملة لوقا لإنجيله، في أعمال الرسل، ادعى أن بولس الفريسي حصل على أوامر اعتقال من رئيس الكهنة للمؤمنين في دمشق. وهذا أسلوب أدبي آخر، وهو غلو ("تجاوز") من جانب لوقا؛ فلم يكن لرئيس الكهنة سلطان خارج أورشليم، وبعد أن روى تحول بولس على الطريق إلى دمشق، روى النصف الثاني من سفر أعمال الرسل رِحْلات بولس. لقد كان الأمم يرحبون دائمًا ببولس، ولكن كان اليهود يضطهدونه دائمًا وفي كل مكان.
تلوم الأناجيل الثلاثة الأولى رؤساء الكهنة اليهود، لكن إنجيل يوحنا يوجه هذا اللوم إلى "اليهود"، وهي العبارة التي تتكرر 73 مرة في إنجيله، ففي يوحنا أصبحت الخصائص اليهودية أيقونة قياسية في معاداة المسيحية للسامية، فعندما كان بعض اليهود يفكرون في أنهم من نسل إبراهيم وأنهم يتبعون أعمال أبيهم الله، أجابهم "يسوع" يوحنا:
"أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ». فَقَالُوا لَهُ: «إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِنًا. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. فَقَالَ لَهُمْ “يسوع”: لَوْ كَانَ اللهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كَلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي. أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ. وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟ اَلَّذِي مِنَ اللهِ يَسْمَعُ كَلاَمَ اللهِ. لِذلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللهِ". (يوحنا 8: 41-47)
حاول أتباع "يسوع" على مدى العقود القليلة التالية، خلق هويتهم الخاصة، وذلك في أثناء فصل المسيحية عن اليهودية، لكن شكّل اليهود تحد لـ "الحقيقة" المسيحية. استخدمت نصوص ورسائل العهد الجديد بالإضافة إلى الأناجيل، الحُجة القائلة بأن المسيحيين وحدهم لديهم التفسير الصحيح للعهد القديم ومن ثم فاليهود تابعون لهم. ازداد النقد اللاذع لليهود بحلول القرن الثاني، عندما استخدم آباء الكنيسة مواد الإنجيل لشيطنتهم باعتبارهم عملاء للشيطان، ومع عبادة المسيحيين لــ"يسوع" كإله، أصبح "قتل الإله" تهمة ضد اليهود جميعهم. برر المسيحيون قتل اليهود طوال العصور الوسطى وما بعدها، عن طريق مواءمة اليهود المعاصرين باستمرار مع الفريسيين في الأناجيل.
تظل معاداة المسيحية للسامية ظاهرة فريدة في الثقافة الحديثة. ادعى اللاهوتي والباحث في العهد الجديد، "جون دومينيك كروسان"، أن إلقاء اللوم على اليهود في موت "يسوع" هو "أطول كذبة" في التاريخ.