أصبحت سمورامات وصية على عرش الإمبراطورية الآشورية (811-806 ق.م) بانتظار بلوغ ابنها أدد نيراري الثالث (811-783 ق.م) السن القانوني، وقد عُرفت باسم شمورمات وسَمّورامات أيضًا لكن سميراميس كان اسمها الأشهر. مضى قرن من الزمان ولا يزال الجدال يدور بين الباحثين حول سميراميس؛ هل كانت اسطورتها مستقاة من سمورامات، وهل كانت شخصية تاريخية، بل هل حكمت سمورامات بلاد آشور أصلًا؟
لا يُرجَّح أن يصل النقاش إلى نتيجة حاسمة في المستقبل القريب، لكن يبدو أن من الممكن ترجيح أن تكون فترة حكم الملكة سمورامات هي الأساس الذي ألهم الأساطير المتعلقة بسميراميس، فإن لم تكن مُلهِمةً بأفعالها الحقيقية فبالإنطباعات التي خلّفتها لدى معاصريها على الأقل.
كانت سمورامات زوجة الملك شمشي أدد الخامس (823-811 ق.م) وحين توفي استلمت هي الحُكم بصفتها وصية على عرش ابنها أدد نيراري الثالث حتى يبلغ السن القانوني، فلما بلغه سلّمته إياه، ويصفها المؤرخ غويندولين ليك بقوله «حقّقت هذه المرأة شهرة وقوة لافتتين للنظر؛ في حياتها وبعد مماتها، وتُظهر السجلات المعاصرة لها تأثيرها المهم في البلاط الآشوري» (ص 155)، ويبيّن هذا كيف استطاعت أن تحافظ على العرش بعد وفاة زوجها، إذ لم يكن للنساء أن يتسلمن مواقع قيادية في الإمبراطورية الآشورية فكيف بتسنّم واحدة منهن العرش؟! ليس بالمستطاع حصول ذلك إلا إذا كانت هذه المرأة بالغة القوة.
لا بدّ أن تكون فترة حُكم سمورامات مُبهرة بحق حتى نمت وترعرعت حولها كل هذه الأساطير فأزاحت الحقائق من الذاكرة
إذا كانت سميراميس هي سمورامات فإن عهدها كان -بلا شك- مبهرًا؛ إذ خلدت في ذاكرة الآشوريين والإغريق والأرمن وشعوب أخرى باعتبارها شخصية شبه مقدسة ولدتها الآلهة وربّاها الحَمام، أما المصدر الرئيسي الذي تناول قصص سميراميس فهو كتابات المؤرخ الإغريقي ديودور الصقلي (نحو 90-30 ق.م) الذي اقتبس أعمال كتسياس (القرن 5 ق.م) الضائعة حاليًا، كما ورد ذكر سميراميس عند هيرودوت وسترابو وسطرت أساطيرها في أعمال كتّاب كثيرين بينهم بولياينوس وبلوتارخ ويوستينوس ويوسابيوس.
يذكر بلوتارخ «بَنَت سميراميس لنفسها نصبًا تذكاريًا ونقشت عليه: على الملك الذي يريد الكنز أن يفتح هذا القبر؛ فإنّه سيرضى. ففتحه داريوس فلم يجد كنزًا إلا إنه وجد نقشًا آخر يقول: لو لَم تكُن خسيسًا جشِعًا لَما أزعجت الموتى في بيوتهم».
ويذكر يوسابيوس شكوى الكاتب البابلي بيروسوس (برعوشا، برحوشا) من الإغريق ينسبون لسميراميس مشاريع عمرانية عظيمة لم تكن لها يد فيها، بينما ينقل بولياينوس نقوشًا نسبها لسميراميس تشهد بمآثرها وبنائها الأسوار المنيعة حول مدن مملكتها.
ارتبطت سميراميس بعشتار (إنانا، عشتروت) والآلهة عمومًا، منذ عهد بعيد سبق زمان ديودور الصقلي؛ فقد بجّلها الآشوريون وندّد بها الأرمن (ربما بسبب قيادتها حملة عسكرية ناجحة ضدهم) لكنها حظيت بالإجلال -عامةً- حتى ظهور المسيحية التي سلبتها حظوتها مثلما فعلت مع عشتار وأفروديت وعشتروت وباقي الآلهة العتيقة.
شهَّر الكاهن المسيحي ألكسندر هيسلوب (القرن 19 م) بسميراميس في كتابه «المملكتان البابليتان» المناهض للكاثوليكية، إذ ربط الملكة بعاهرة بابل المذكورة في رؤيا يوحنا (إصحاح 17) رغم أن الرؤيا لم تذكرها بالاسم، بل لم يرد ذكرها -أو ذكر اسم يشبه اسمها- سلبًا في الكتاب المقدّس على الإطلاق.
بصرف النظر عن مدى صحة ما ورد أعلاه فإنَّ الباحثين استمروا بتحدي فرضية مضاهاة سمورامات بسميراميس منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وقد انقسم المؤرخون حول مسألة حُكمِ سمورامات لآشور أصلًا، وحول علاقة عهدها بأسطورة سميراميس، وحول مقدار ما حققته من منجزات أثناء حُكمها إن كانت قد حققت شيئًا على الإطلاق، ولذلك تبقى سميراميس إحدى أكثر الشخصيات القديمة إثارة للجدل.
عهد سمورامات التاريخي
كان شمشي أدد الخامس (زوج سمورامات) ابنًا لشلمنصر الثالث وحفيدًا لآشور ناصربال الثاني، وقد حَكَم الأخيران الإمبراطورية بنجاح وقادا الحملات العسكرية الموَفَّقة ما هيّأ لشمشي أدد الاستقرار والموارد الكافية ليبدأ عهده بنجاح لولا ثورة أخيه الأكبر؛ إذ ثار ابن شلمنصر الأكبر «آشور دانن بال» على حُكم والده سنة 826 ق.م بعد أن ملَّ انتظار موته -كما يبدو- ليخلفه هو على العرش، وساند شمشي أدد أباه فسحق ثورة أخيه بعد ست سنوات من قيامها.
تبددت موارد كثيرة حتى تمت هزيمة آشور دانن بال، موارد كان يمكن لشمشي أدد أن يستفيد منها في عهده، كما ضعفت الإمبراطورية الآشورية نتيجة هذه الثورة وضاع استقرارها.
في هذا الوقت ظهرت سمورامات في السجلات التاريخية، ورغم أن تاريخ زواجها بالملك غير معروف إلا أنها كانت قادرة على توفير الاستقرار للأُمّة حين مات زوجها وتسلمت هي الحُكم.
يرى المؤرخون أن شعب آشور كان يعيش في زمن يحوط مستقبله الغموض و تكتنفه الإحتمالات المختلفة، لذلك نظر إلى عهدِ سمورمات الناجح بعين المهابة والإجلال، ولو كان الحاكم رجلًا لكان الشعور بالرهبة أقل لوجود السوابق التاريخية. أما سمورامات فقد كانت قوية إلى درجة إقامة مسلّة نصبتها بشموخ في العاصمة الدينية آشور ونقشت عليها ما يلي:
مسلة سمورامات، ملكة (زوجة) شمشي أدد، ملك العالم، ملك آشور، (و) أم أدد نيراري، ملك العالم، ملك آشور، (و) كنّة (زوجة ابن) شلمنصر، ملك الجهات الأربع (ملك مناطق العالم الأربع)
لا نعرفُ المنجزات التي قامت بها سمورامات إبّان عهدها بالضبط، لكن يبدو أنها بدأت عددًا من المشاريع العمرانية وقادت بنفسها حملات عسكرية، ويذكر المؤرخ ستيفان بيرتمان أن سمورامات رافقت شمشي أدد -قبل موته- في حملة عسكرية واحدة على الأقل، وقد ذُكِرت بوضوح في النقوش الملكية (ص 102)، واستمرت -بعد موت زوجها- في قيادة مثل هذه الحملات كما يبدو، رغم أن الشك يشوب هذا الأمر مثلما يشوب معظم ما نعرفه عن عهدها.
أمّنت سمورامات -بطريقة ما- الاستقرار للإمبراطورية بعد الحرب الأهلية فسلّمت ابنها دولة كبيرة آمنة، ومن المعروف أنها هزمت الميديين وضمت أراضيهم للإمبراطورية وربما تكون قد فتحت أرمينيا أيضًا، وأقامت -حسب هيرودوت- الحواجز الشهيرة على فرات بابل لمنع الفيضان.
أما منجزات سمورامات الأخرى فقد اختلط فيها الواقع بالأسطورة، وتعلّق المؤرخة سوزان وايز باور على ذلك بقولها: صعدت سمورامات إلى رأس السلطة فكانت أول امرأة تجلس على عرش الدولة الآشورية، وكانت تعي ذلك إذ أقامت لنفسها مسلة تربطها بكل ملك آشوري استطاعت ربط نفسها به؛ فلم تذكر فيها إنها زوجة شمشي أدد وأم أدد نيراري فحسب، بل ذكرت إنها كنة شلمنصر «ملك الجهات الأربع» كذلك.
وتُكمل سوزان باور قائلة: كان تحكّم سمورامات بالسلطة مدهشًا لدرجة إنه علق بذاكرة شعوب جديدة على المسرح التاريخي فرددت صداه عبر الزمن؛ إذ تذكّرها الإغريق بعد أن منحوها اسمًا يونانيًا هو سميراميس، وذكر مؤرخهم كتسياس (القرن 5 ق.م) أنها كانت ابنة إلهة السَمَك وقد ربّتها الحمامات ثم تزوجت ملك آشور فولدت له ابنًا يُدعى نينوس، فلما مات زوجها تسنّمت عرشه غدرًا. وقد حفظت هذه القصة القديمة اسم أدد نيراري بصيغة نينوس؛ ابن الملكة الأسطوريّة، وهي ليست القصة الوحيدة التي تلمّح إلى صعود «سمورامات» إلى رأس السلطة بطريقة غير مستقيمة؛ إذ يخبرنا المؤرخ الإغريقي ديودور (القرن 1 ق.م) أن سميراميس أقنعت زوجها بإعطائها السلطة لخمسة أيام فقط؛ لترى إن كانت تستطيع تدبّر أمرها، فلما فعل أمرت بإعدامه واحتفظت بالسلطة حتى ماتت (ص 349).
خلّفت حملات سمورامات العسكرية ومشاريعها العمرانية وإدارتها القديرة للدولة، خلّفت كلها انطباعًا عند القدماء جعلهم يسمون بها إلى مرتبة عظيمة؛ فوصف المؤرخ القديم سترابو أعمالها بأنها «منتشرة يُشار إليها عِبر القارة بأكملها تقريبًا، من حصون وتحصينات وأسوار وقنوات مياه وقناطر وطرق وجسور وطرق متدرجة يُرتقى بها إلى الجبال» (16.1.2)، ويعزفُ هيرودوت في تعليقاته على نفس نغمة سترابو، أما ديودور فيدّعي أن سميراميس مقدّسة.
وثّق القدماء إنجازات سميراميس المذهلة، رغم أن المؤرخين المعاصرين يرون أنها قد لا تكون مسؤولة عن أي من تلك الإنجازات، بل ربما كانت سميراميس شخصية أسطورية بالكامل لا علاقة لها بسمورامات التاريخية، فيكتب المؤرخ ولفرام فون سودين «يُقال أن سمورامات؛ أي سميراميس في الأدب الإغريقي، كانت وصية مؤقتة على العرش بعد سنة 810 ق.م، لكن لا يمكن إثبات ذلك» (ص 67)، وهذا ليس رأي فون سودين وحده بل يشاركه فيه مؤرخون آخرون، لكن لا يتفق جميع المؤرخين المعاصرين على هذا الرأي، وقد رأينا باور تصرّ على الرأي المعاكس.
على كل حال، يبدو بوضوح أن أصل أسطورة سميراميس هو الملكة الآشورية التاريخية سمورامات؛ اعتمادًا على التشابهات -التي تصل أحيانًا حد التطابق- في القصص القديمة بين الملكة الآشورية التي فتحت ميديا وأرمينيا وبين الملكة الآشورية المحاربة سميراميس.
عهد سميراميس الأسطوري
يكتب ديودور عن سميراميس فيقول:
إنها خُلقت حين غضبت أفروديت على إلهة السمك ديرسيتو العسقلانية فوضعت فيها رغبة عارمة تجاه أحد عبّادها، وكان شابًا وسيمًا، فأسلمت ديرسيتو نفسها لهذا الشاب ثم ولدت منه بنتًا، ولم تلبث أن شعرت بالعار من فعلتها فقتلت الشاب وتركت الطفلة في صحراء صخرية ولشعورها بالعار والحزن معًا رمت بنفسها في البحيرة فتحولت إلى سمكة (4.2).
كادت الطفلة تموت لولا مساعدة سرب من الحمائم؛ إذ جلبت الحمائم لها الحليب من قرية قريبة وسقينها إياه بمناقيرهن، ثم أطعمنها الجبن لاحقًا، ووَقَين الطفلةَ من البرد بإحاطتها بأجسامهن. ولاحظ المزارعون فقدان الجبن والحليب فطفقوا يبحثون عن السبب ولم يلبثوا أن وجدوا طفلة عمرها سنة واحدة بجانب البحيرة يحيطها الحمام.
أخذ مزارع يُدعى «سيما» (سيماس) الطفلة إلى بيته، وأطلق عليها اسم سميراميس، ويقول ديودور إن معنى الاسم هو «الحمائم».
كبرت سميراميس فأصبحت امرأة جميلة معروفة بذكائها وأناقتها. وفي أحد الأيام، زار «أونس» حاكم سوريا المزرعةَ فرآها ووقع في حبها، وطلب من سيما يدها للزواج فوافق الأخير.
يقول ديودور:
إن سميراميس بجمال طلعتها وصفاتها الرائعة الأخرى أسَرَت زوجها تمامًا، وقد ازدهرت أحواله إذ إنه لم يُقدم على عمل إلا باستشارتها أولًا (5.2)
فارتقى زوجها في عمله وعلا مركزه في البلاط بفضل نصائح زوجته حتى أصبح أحد أكثر المستشارين قُربًا من الملك.
بدأ الملك «نينوس» في ذلك الوقت حملة على باكتريا (باختر، باكتريانا) فعصف بمدنها الواحدة تلو الاخرى ولم تستعصِ عليه إلا العاصمة بلخ (باكترا)، وقد حاصرها لكن دفاعاتها القوية حمتها من السقوط. بعد أن استمر الحصار لفترة من الزمن فكّر أونس باستشارة زوجته سميراميس لعلها تخرج بحلٍ ما.
يقول ديودور: كان أونس غارقًا في حب سميراميس ومشاركًا في الحملة مع الملك في نفس الوقت، ولما رأى أن الحصار قد طال أرسل في طلب زوجته فاستجابت له إذ رأت في طلبه فرصة لاستعمال مواهبها، وهي التي وُهِبت الفهم والجُرأة والصفات المميزة. واستعدت سميراميس لرحلتها التي ستستمر أيامًا عديدة، فصنعت لنفسها لباسًا لا يُعرف جنس لابسه إن كان رجلًا أم امرأة، وكان هذا اللباس مناسبًا -أيضًا- من نواحٍ أخرى؛ فهو يحمي من الحرارة فيحافظ على لون جلد من يرتديه، وهو مريح لصاحبه يعطيه الحرية في الحركة بمرونته، إضافة إلى شكله الجذّاب؛ حتى أن الميديين -الذين حكموا آسيا لاحقًا- ارتدوا لباس سميراميس دومًا، وكذلك فعل الفُرس من بعدهم.
يُكمل ديودور قائلًا: وصلت سميراميس إلى بلخ ورأت مدى تقدم الحصار فلاحظت أن المهاجمين تمركزوا في السهول وفي مواضع يسهل على المدافعين صد الهجوم فيها، لكن أحدًا لم يحاول مهاجمة قلعة المدينة بسبب موقعها الحصين وأن المدافعين تركوا مواضعهم فيها لمساعدة أخوتهم على الأسوار، وهكذا جمعت سميراميس جنودًا متمرسين في تسلق المرتفعات الصخرية وقادتهم عبر وادٍ ضيق صعب فسيطرت على جزء من القلعة وأعطت الإشارة لمحاصري السور في الأسفل، فشاهدها المدافعون وأصابهم الرعب لفقدانهم السيطرة على قلعتهم فتركوا الأسوار وهجروا الأمل في إنقاذ أنفسهم (6.5-8).
سقطت المدينة بيد نينوس فسأل أونس عن كيفية سقوطها، وهكذا قدّم أونس زوجته سميراميس إلى الملك فذُهِل الأخير من قابلياتها وكافأها -هي وزوجها- بالهدايا والامتيازات. وسرعان ما وقع نينوس في حب سميراميس «وحاول نينوس أن يقنع زوجها أن يخليها بالحسنى مقابل أن يزوجه ابنته الأميرة سوسنة، ولما أزعج الطلبُ أونس هدده الملك باقتلاع عينيه فجُنّ أونس خوفًا من العقاب وحبًّا بزوجته فشنق نفسه، وهكذا أصبحت سميراميس ملكة» (ديودور: 6.9-10).
حين صارت سميراميس ملكة، أخذت تسعى بثبات لزيادة سلطتها عِبر قيامها بالفتوحات العسكرية والمشاريع العمرانية، ولما مات نينوس دفنته تحت مُرتفع عظيم على نهر الفرات (يدّعي ديودور أن القبر ما زال قائمًا حتى زمانه)، ثم أنشأت مدينة بابل وبنت فيها قصرينِ هائلين وصلت بينهما بنفق وأقامت الحواجز لحماية المدينة من فيضان النهر، ومن هناك أخذت في شن الحملات العسكرية، وقد لاحظ كثير من المؤرخين أن وصف ديودور لحملات سميراميس على الهند يشبه -إلى حد كبير- ما جاء عن الأسكندر، وأن وصفه فتحها لبلاد الميديين يشبه -كذلك- وصف فتح الأسكندر لها.
لم ترغب سميراميس في أن يسيطر عليها زوج ما فامتنعت عن الزواج واتخذت، بدلًا من زوج واحد، عشّاقًا كثيرين اختارتهم من بين الوسماء في جيشها، فكانت تنام معهم ليلتها ثم تأمر بإعدامهم في الصباح، ويقول البعض إنها كانت تدفنهم أحياءً.
أما في حملاتها العسكرية فقد كانت سميراميس واسعة الحيلة ذكية؛ فهي التي استعملت الفيلة الزائفة في حملتها على الهند، وكانت كذلك قاسية مثلها مثل أي ملك آشوري.
انتهى عهد سميراميس وهي تملكُ على العراق (بلاد الرافدين) والأناضول ووسط آسيا، وماتت عن عمر يناهز 62 عامًا بعد أن حكمت 42 سنة، وتحولت -بموتها- إلى حمامة طارت إلى السماوات العُلى، وفي رواية أخرى -لمّح إليها ديودور- جاء أن سميراميس عندما ماتت، اجتمعت الحمائم التي ساعدتها في طفولتها وحملت جسدها إلى السماء.
الخِلاف والجدال
هل لسميراميس الأسطورية علاقة بسمورامات التاريخية؟ يعتمد الجواب على المؤرخ الذي تختاره والمصدر الرئيسي الذي تقبله.
ينهي ديودور قصة سميراميس -بعد كتابته عشرين فصلًا عنها- بقوله «هذه هي الروايات المتضاربة التي نقلها المؤرخون مما يتعلق بأعمال سميراميس» (20.5)، ومن الممكن إعادة نفس هذا القول في وقتنا الحالي.
يُعد السير هنري رولنسون (1810-1895 م) أبا علم الآشوريات، وهو العلم الذي يدرس الآثار العراقية، وقد بدأ رولنسون بفك شفرة نقش بيستون (بيهيستون) سنة 1835 م، وهو نقش منحوت على منحدر صخري شاهق ذكره مؤرخون قدماء مثل كتسياس (مصدر ديودور الرئيسي عن سميراميس) وقالوا أن سميراميس البابلية هي من أمرت بنقشه، لكننا نعلم اليوم أن الملك الفارسي داريوس الكبير (دارا الأول) هو مَن أمر بكتابته سنة 522 ق.م.
يبدو ان رولنسون هو أول مؤرخ حديث يربط سميراميس بسمورامات محاولًا إيجاد أساس للأسطورة الشهيرة، فربط بين ادعاء كتسياس عن نقش بيستون وبين ملكة حقيقية يرد ذكرها في الحوليات الآشورية بوصفها وصية على العرش الآشوري (811-806 ق.م) ومسؤولة عن بعض الحملات العسكرية.
أيّد بعض المؤرخين اللاحقين رولنسون وعارضه البعض واقتبس العديدُ منهم المصادرَ القديمة نفسها، لكن أحد الأجزاء المعقدة من الجدال جاءت من الكتاب المقدس الذي -يقول البعض إنه- يربط سميراميس ببعض قصصه.
إذ لوحِظ أن اسم «شميراموث» يظهر في سفر أخبار الأيام الأول (إصحاح 15 آيات 18 و20-24، إصحاح 16 آية 5) وسفر أخبار الأيام الثاني (إصحاح 17 آية 8)، ففي الأول كان اسم مغنٍ في المعبد وفي الثاني كان اسم معلم في الشريعة، ويرى بعض المؤرخين أن ذلك يدل على إلهة سامية تُدعى شميرام (تطابق عشتروت) عظّمها سكان المنطقة التي تضم عسقلان (ومعروف أن عشتروت عُبدت هناك) نزولًا على ساحل المتوسط وشرقًا حتى فارس وشمالًا حتى أرمينيا، ويقولون إن الكتاب المقدس حين ذكر شميراموث فأنه كان يشير إلى هذه الإلهة.
يُترجم اسم شميراموث -وفق هذه الفرضية- إلى «صُوَر شميرام» أو «أشياء شميرام»، والموسيقى والقانون اللذان ذكرا أعلاه اعتُبرا -بلا شك- من عطايا الآلهة، وهكذا تكون سميراميس هي نفسها عشتروت ويرتبط بها الأشخاص الذين ذُكروا في السِفرين، لكن هذه الفرضية لا تشرح السبب وراء ذكر إلهة وثنية بكل حيادية في الكتاب المقدس في حين كان التلميح إلى كل الآلهة الوثنية الأخرى فيه يتم بصورة سلبية.
لا تشرح الفرضية -أيضًا- لماذا كانت شميراموث تُشير إلى اللاويين من بني إسرائيل الذين لا علاقة لهم بأية إلهة عراقية قديمة، ومعروف أن عشتروت هي من صُوَر العراقية عشتار، وأخيرًا تُهمِل هذه الفرضية احتمالية أن تكون سميراميس الإغريقية هي شخص مختلف تمامًا عن شميراموث الكتاب المقدس.
«المملكتان البابليتان» المنشور سنة 1858 م للكاهن ألكسندر هيسلوب (1807-1865) هو مثال جيد على كتاب قدّم الدعاية بصورة تاريخ، وقد عقّد مسألة ربط سميراميس بسمورامات.
اعتقدَ هيسلوب -الكاهن في الكنيسة الحرة في أسكتلندا- أن الكنيسة الكاثوليكية هي طائفة شيطانية وألّف كتابه ليُثبت هذه «الحقيقة»، وقد ادّعى في كتابه هذا أن سميراميس كانت زوجة الملك نمرود وأم تموز، وربطها مباشرة بعاهرة بابل المذكورة في سفر الرؤيا (إصحاح 17).
لا يربط الكتاب المقدس بين سميراميس ونمرود بتاتًا، وقد ذكر سفر التكوين 10:8 أن «كوش ولَدَ نمرود» لكنه لم يذكر زوجة نمرود على الإطلاق، ومن المتوقع أن يكون معلومًا لكل ذي معرفة -ولو ضئيلة- بالكتاب المقدس وبتاريخ العراق أن كتاب هيسلوب ليس أكثر من دعاية ضد الكاثوليكية لكن الغريب أنه ما يزال يُستعملُ ويُستشهدُ بمحتواه باعتباره مرجعًا في التاريخ بواسطة بعض المواقع الإلكترونية البروتستانتية مثل موقع: الحقيقة وراء عيد الفصح (The Truth About Easter).
يُصر هؤلاء الكتاب المسيحيون على مطابقة سميراميس بعاهرة بابل ووصفها بعدوّة الخير اللئيمة، وإصرارهم يوسع المسافة بينها وبين أيّة ملكة آشورية حقيقية، وهي مسافة -أصلًا- بعيدة في الكتابات القديمة التي وصفت سميراميس بالقدسية.
إن القصص التي تتناول شبق سميراميس الجنسي ومصير عشاقها الكثيرين تشبه القصص حول إنانا السومرية/عشتار البابلية/عشتروت الكنعانية، وإن علاقتها بالحَمام وبعسقلان تجعلها أقرب إلى عشتروت، ما جعل بعض المؤرخين يعزفون عن البحث عن شخصية تاريخية ألهمت أسطورة سميراميس ووصفوا «البحث عن نموذج أولي تاريخي بُنيت حوله أسطورة سميراميس (بأنه) أمر أحمق كالبحث عن ما يماثل ذلك في أساطير هرقل أو رومولوس» (ر. بدروسيان، 3)، لكن لا يتفق الجميع على ذلك.
يرى بعض المؤرخين أن علينا ملاحظة أهمية الملكة سمورامات التي استُلهمت منها سميراميس الأسطورية، فقد ظلت الأولى مؤثرة بشكل عظيم في أثناء حكم ابنها أدد نيراري الثالث الذي اجتمع اسمه مع اسمها -في السجلات الرسمية- كأنهما كانا يعملان معًا (فان دي ميروب، 244-245).
ربما لم تقم سمورامات بأي من المآثر المنسوبة إلى سميراميس إلا أن من المحتمل أن عهدها كان مجيدًا إلى درجة أنه ألهم اللاحقين خلق القصص العظيمة حول سميراميس والتي نمت بدورها جيلًا بعد جيل حتى نُسيت الأحداث الحقيقية ولم يعد الناس يتذكرون سوى سميراميس الأسطورية.
إن أسلوب نمو الأسطورة بهذه الطريقة معروف في العراق القديم، وهو نوع من الأدب دعاه العراقيون «أدب النارو» ويبدو أنه ظهر نحو سنة 2000 ق.م، وفيه يتناول الكاتبُ شخصيةً تاريخية مشهورة ويتخيلها في مواقف لم تقابلها في حياتها الواقعية حتى يخلق قصة جذابة تسلي الجماهير وتنير أذهانهم.
لوحظ وجود هذا النوع الأدبي في ثقافات قديمة وحديثة أخرى، ومن أمثلته اختيار الكاتب جيمس كيرك بولدينغ الشخصية التاريخية ديفيد كروكيت؛ وهو أمريكي عاش بين سنتي 1786-1836 م، وتحويله في مسرحية «أسد الغرب» سنة 1831 م إلى البطل الشعبي دَيفي كروكيت.
لم يكن بمقدور ديفيد الحقيقي القيام بالمآثر التي قام بها ديفي الخيالي لكن حياة الأخير اعتمدت على حياة الأول، وبنفس الطريقة كانت أساطير سميراميس شبه المقدسة مُستلهمة -على الأرجح- من حياة الملكة الآشورية سمورامات.