يعد موسى (حوالي 1400 سنة ق.م) أحد أهم القادة الدينيين في تاريخ العالم، وتعترف به (اليهودية والمسيحية والإسلام والبهائية)، بصفته نبي من أنبياء الله ومؤسس عقيدة التوحيد. تُروى قصة موسى في أسفار (الخروج واللاويين والتثنية والعدد) من العهد القديم، ومع ذلك يُشار إليه في جميع أنحاء الكتاب المقدس، وهو النبي الذي يُستشهد به في العهد الجديد في أغلب الأحيان.
أدّى موسي أيضًا دورًا مهمًا في القرآن الكريم، ومرة أخرى، هو الشخصية الدينية الأكثر ذكرًا في القرآن الكريم، حيث ذُكر 115 مرة على عكس النبي محمد الذي يشار إليه بالاسم أربع مرات فقط! وكما هو الحال في الكتاب المقدس، فإن موسى في القرآن هو شخصية تمثل الفهم الإلهي أو البشري بالتناوب.
يُعرف موسى من القصة الواردة في سفر الخروج والقرآن بأنه واضع الشريعة الذي التقى الله وجهاً لوجه على جبل سيناء ليتلقى الوصايا العشر بعد أن قاد شعبه، العبرانيين، للخروج من العبودية في مصر إلى "أرض الميعاد" في كنعان. لا توجد قصة خروج العبرانيين من مصر إلا في أسفار موسى الخمسة، وهي الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس (العهد القديم)، وفي القرآن الذي كُتب فيمَا بعد. لا توجد مصادر قديمة أخرى تؤيد القصة ولا يوجد دليل أثري يدعمها. أدى ذلك إلى استنتاج العديد من العلماء أن موسى كان شخصية أسطورية وقصة الخروج أسطورة ثقافية.
يروي المؤرخ المصري "مانيتون السمنودي" (القرن الثالث قبل الميلاد) رغمًا عن ذلك، قصة كاهن مصري يُدعى "وسرساف" قاد مجموعة من المجذومين في تمرد ضد رغبات الملك الذي أراد نفيهم، ويزعم مانيتون أن "وسرساف" رفض تعدد آلهة الديانة المصرية لمصلحة الفهم التوحيدي وغيّر اسمه إلى موسى بمعنى "ابن..." وعادًة ما كان يستخدم هذا الاسم مقترنًا باسم إله مثل: (رمسيس سيكون رع-موسى ابن رع)، ويبدو أن "وسرساف" لم يقرن اسم إله باسمه، لأنه كان يعتقد أنه ابن إله حي لا يمكن - أو يجب - أن ينطق البشر باسمه.
استشهد المؤرخ فلافيوس يوسيفوس (حوالي 37-100م) بقصة مانيتون عن (وسرساف/موسى) بإسهاب في عمله الخاص، ويروي المؤرخ الروماني تاسيتس (حوالي 56-117م) قصة مشابهة لرجل يدعى موسى أصبح قائدًا لمستعمرة من المجذومين المصريين. دُفِعَ عددًا من الكتّاب والعلماء (من بينهم سيجموند فرويد وجوزيف كامبل) إلى التأكيد على أن موسى الكتاب المقدس، لم يكن عبرانيًا نشأ في قصر مصري، بل كان كاهنًا مصريًا قاد ثورة دينية لتأسيس التوحيد. تربط هذه النظرية ربطًا وثيقًا بين موسى والفرعون أخناتون (1353-1336 ق.م) الذي أسس في السنة الخامسة من حكمه عقيدة التوحيد الخاصة به في الإله آتون، الذي لا يشبه أي إله آخر، وهو الأكثر قوة من الجميع.
يرجح أن توحيد أخناتون نابع من دافع ديني حقيقي، أو ربما كان رد فعل ضد كهنة الإله آمون الذين أصبحوا في نفس ثراء ونفوذ الفرعون تقريبًا، وبتأسيس التوحيد وحظر جميع آلهة مصر القديمة، قضى أخناتون فعليًا على أي تهديد للعرش من الكهنة.
تتّبع النظرية التي قدمها كامبل وآخرون (كتاب سيجموند فرويد "موسى والتوحيد") والتي مفادها أن موسى كان كاهنًا لأخناتون قاد أتباعه الذين يشاطرونه الرأي خارج مصر بعد وفاة الملك، في الوقت الذي أعاد فيه توت عنخ آمون (حوالي 1336-1327 ق.م) -أبن أخناتون- الآلهة والممارسات القديمة. يساوي علماء آخرون بين موسى وأخناتون نفسه ويرون أن قصة الخروج هي تجسيد أسطوري لمحاولة أخناتون الصادقة للإصلاح الديني.
ذكر عدد من الكتاب الكلاسيكيين موسى مستندين جميعًا إلى القصص المعروفة في الكتاب المقدس أو لكتّاب سابقين. يمكن أن يكون موسي شخصية أسطورية أخذت حياة خاصة بها حيث سُرِدْتُ قصته مرارًا وتكرارًا، أو يمكن أن يكون شخصًا حقيقيًا نُسبت إليه أحداث سحرية أو خارقة للطبيعة أو يمكن أن يكون بالضبط كما هو مصور في الأسفار الأولى من العهد القديم والقرآن.
يُصعب تحديد تاريخ حياة موسى والتاريخ الدقيق لخروجه من مصر، ودائمًا ما يُعتمد على تفسيرات سفر الخروج بالاقتران مع أسفار الكتاب المقدس الأخرى، ولذلك فهي دائمًا ما تكون تخمينية، يُحتمل أن كاتب عبراني عاش في كنعان كتب قصة الخروج، وكان يرغب في التمييز بوضوح بين شعبه والمستوطنات القديمة في المنطقة، فقصة شعب الله المختار الذي قاده نبيهم موسى إلى الأرض التي وعدهم بها إلههم كانت ستخدم هذا الغرض بشكل جيد.
موسي في الكتاب المقدس
يُأخذ سفر الخروج (الذي كُتب حوالي 600 سنة ق.م) من قصة سفر التكوين (الإصحاحات 37-50) عن يُوسُف بن يعقوب الذي باعه إخوته غير الأشقاء الغيورون في العبودية ثم أصبح ذا مكانة بارزة في مصر، لبراعته في تفسير الأحلام، حيث فسر حلم الملك، وتنبأ بدقة بمجاعة قادمة، فعُيّن مسؤولًا عن إعداد مصر لمواجهة تلك المجاعة، ونجح في مهمته ببراعة، وأتى بعائلته إلى مصر. يبدأ سفر الخروج بتزايد عدد بني إسرائيل من نسل يُوسُف في أرض مصر حتى إن الفرعون استعبدهم خوفًا من استيلائهم على السلطة.
يدخل موسى القصة في الإصحاح الثاني من السفر بعد أن أصدر الفرعون الذي لم يُذكر اسمه، والذي لا يزل قلقًا من تزايد عدد سكان بني إسرائيل، مرسومًا بقتل كل طفل ذكر. تخبئ والدة موسى أبنها لمدة ثلاثة أشهر، ولكن بعد ذلك، وخوفًا من اكتشاف أمره وقتله، تضعه في سلة من البردي مغطاة بِالْحُمَرِ وَالزِّفْتِ، على ضفاف النيل مع مراقبة أخته له.
تُدفع السلة إلى حيث تستحم ابنة فرعون وجواريها ويكتشفوها. تُخرج الأميرة الطفل من النهر وتسميه "موسى" مدعية أنها اختارت هذا الاسم لأنها "انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ" (خروج ٢: ١٠) مما يجعل التأكيد على أن "موسى" تعني "استخرج". اُعْتُرِض على هذا الأصل للاسم لأن كلمة "موسى" في اللغة المصرية تعني "ابن" كما أشرنا اعلاه. تظهر أخت موسى، التي لا تزل ترعاه، وتقترح إحضار مُرْضِعَةً عبرانية للرضيع، وهكذا أحضرت أمها التي، في البداية على الأقل، لُمَ شملها مع ابنها.
ينشأ موسى في قصر الفرعون حتى يرى ذات يوم مصريًا يضرب عبدًا عبرانيًا فيقتله ويدفن جثته في الرمال، وفي اليوم التالي، عندما يخرج مرة أخرى بين الناس، يرى اثنين من العبرانيين يتشاجران فيفرق بينهما ويسألهما عن المشكلة، فيجيب أحدهما بسؤاله عما إذا كان ينوي قتلهما كما فعل بالمصري، عندها يدرك موسى أن جريمته انفضحت ويهرب من مصر إلى أرض مَديَن.
يُنقذ موسي في أرض مَديَن ابنتَي رئيس الكهنة (اسمه رعوئيل في سفر الخروج 2 ويَثْرُونَ بعد ذلك) الذي كافئه بابنته "صفورة" زوجة له. يكسب موسى قوت عيشه في مَديَن من رعي الأغنام إلى أن يصادف ذات يوم عليقة تحترق بالنار ولكنها لا تلتهمها. كانت النار هي ملاك الله الذي يحمل لموسى رسالة بأن عليه العودة إلى مصر لتحرير شعبه، لكن موسى يبدوا غير عابئ ويقول لله بصراحة: "اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَرْسِلْ بِيَدِ مَنْ تُرْسِلُ" (خروج 4: 13).
يبدوا أن الله ليس في مِزَاج يسمح له بالتشكيك في اختياره، ويعلنها صريحة أن موسى سيعود إلى مصر، ويؤكد له أن كل شيء سيكون على ما يرام، وأنه سيكون معه أخوه هارون ليساعده على الكلام، وقوى خارقة للطبيعة تمكنه من إقناع فرعون بأنه يتكلم باسم الله، ويقول لموسى أيضًا، في مقطع طالمَا أزعج مفسري الكتاب المقدس أنه سوف "أُشَدِّدُ قَلْبَهُ" يقصد فرعون، ضد تلقي رسالة إخلاء سبيل بني إسرائيل في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يقبل فرعون الرسالة ويخلّى سبيلهم. يعود موسى إلى مصر، وكما وعد الله، "أُشَدِّدُ قَلْبَ" فرعون ضده. يتنافس موسى وهارون مع الكهنة المصريين في محاولة لإظهار أيهمَا أعظم إلهًا، لكن فرعون لا يتأثر. يُسمح لبني إسرائيل بالرحيل، بعد سلسلة من عشر ضربات تدمر الأرض وتقتل في النهاية أبكار المصريين، وكما أمر الله، يأخذون معهم (يسرقون) كَمَيَّة هائلة من كنوز مصر.
يغير فرعون، رغمًا عن ذلك، رأيه بعد ذهابهم، ويرسل جيش من المركبات لمطاردتهم، وفي واحد من أشهر المقاطع من الكتاب المقدس، يشق موسى البحر الأحمر حتى يتمكن شعبه من العبور ثم يغلق المياه على الجيش المصري المُطَارِد ويغرقهم، ويقود شعبه متبعًا آيتين من الله: عمود سحاب نهارًا وعمود من نار ليلًا، وعند أسفل جبل سيناء، يترك موسى شعبه ليصعد ويلتقي الله وجهًا لوجه؛ وهنا يتلقى الوصايا العشر، شرائع الله لشعبه.
يتلقى موسى على الجبل، الشريعة، وكذلك التعليمات الخاصة بتابوت العهد وخيمة الاجتماع التي ستؤوي حضور الله بين الشعب، أما في أسفل الجبل، بدأ أتباعه يخافون من موته ويشعرون باليأس، فيطلبون من هارون أن يصنع لهم صنمًا يعبدونه ويطلبون منه المساعدة. يصهر هارون الكنوز التي أخذوها من مصر في النار ليصنعوا منها عجلًا ذهبيًا، وعلى الجبل، يرى الله ما يفعله بني إسرائيل ويطلب من موسى أن يعود ويتعامل مع شعبه.
ينزل موسي إلى أسفل الجبل ويرى شعبه يعبدون ٱلْعِجْلَ، فيغضب ويحطم ألواح الوصايا العشر، ويدعو جميع الذين بقوا مخلصين لله إلى جانبه، بمن فيهم هارون، ويأمرهم بقتل جيرانهم وأصدقائهم وإخوتهم الذين أجبروا هارون على صنع ٱلْعِجْلَ لهم. يصف سفر الخروج (32: 27-28) المشهد ويزعم أن "ثَلاَثَةِ آلاَفِ رَجُل" قُتلوا على يد اللاويين الذين كانوا مع موسى، وبعد ذلك، يقول الله لموسى أنه لن يرافق الشعب بعد ذلك لأنهم "شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ"، وإذا سافر معهم أكثر من ذلك، سينتهي به الأمر بقتلهم لأنه ضَاقَ بِهِم ذَرْعاً.
يدخل موسى والشيوخ، بعد ذلك، في عهد مع الله يكون بموجبه إلههم الوحيد ويكونون هم شعبه المختار، وسوف يسافر معهم شخصيًا بحضوره الإلهي لتوجيههم وتعزيتهم. يكتب الله الوصايا العشر على ألواح جديدة يقطعها له موسى وتوضع في تابوت العهد ويوضع التابوت في خيمة الاجتماع، وهي خيمة مصنوعة بإتقان.
يأمر الله كذلك بأن يُصنع مصباح من الذهب الخالص ومائدة من خشب السنط وتوضع أمام حضرته في خيمة الاجتماع لتقدم القرابين، ويحدد فناءً يُصنع لخيمة الاجتماع، ويحدد القرابين المقبولة والخطايا المختلفة التي يجب على المرء أن يتجنبها ويكفر عنها. لن يضطر الشعب بعد الآن إلى التساؤل عن وجود الله أو التساؤل عما يريده لأنه بين طيات الوصايا العشر والتعليمات الأخرى، كل شيء واضح تمامًا، فضلًا على ذلك، سيعرفون أنه بينهم في خيمة الاجتماع.
لا يزل الشعب يشك ويخاف ويتساءل، بالرغم، من وجود الله في وسطهم، لذلك يقرر الله أن يتيه هذا الجيل في الصحراء حتى الموت، وأن الجيل التالي هو الذي سيرى أرض الميعاد، بعد ذلك يقود موسى شعبه في الصحراء لمدة أربعين سنة حتى يتحقق ذلك، ويصل الجيل الأصغر إلى أرض الميعاد في أرض كنعان، ولا يُسمح لموسى نفسه بالدخول، بل يكتفي بالنظر إليها من وراء نهر الأردن. يموت موسى ويُدفن في قبر غير معلوم على جبل نيبو ويتولى القيادة نائبه يُوشَعُ بْنُ نُونٍ.
ترد تجارِب موسى وتحدياته في التوسط بين شعبه والله، وكذلك شرائعه، في أسفار العدد واللاويين والتثنية التي تشكل مع سفر التكوين وسفر الخروج الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس (العهد القديم)، والتي تُنسب تقليديًا إلى موسى نفسه بصفته مؤلفها.
قصة البطل
إن علماء الكتاب المقدس، بالرغم من كل هذا، يستبعدون تأليف موسى للأسفار الخمسة ويؤكدون أن مؤلفوها كتبة مختلفون في فترات زمنية مختلفة. إن قصة موسى كما وردت في سفر الخروج هي قصة البطل كما فصّلها جوزيف كامبل في أعمال مثل "البطل ذو الألف وجه" أو "تحولات الأسطورة عبر الزمن".
انفصل موسي عن شعبه بعد ولادته بفترة وجيزة وحُرم من تراثه الثقافي، بالرغم من مولده عبرانيًا، وعندما اكتشف ماهيته، وجب عليه ترك حياة الدَعَة التي اعتاد عليها وينطلق في رحلة تؤدي إلى إدراكه لهدفه في الحياة. هو خائف من قَبُول ما يعرف أنه يجب أن يفعله، لكنه يفعل ذلك على أي حال وينجح. يتردد صدى قصة الخروج كما هو الحال لأنها تتطرق إلى مواضيع ورموز عالمية تتعلق بالهوية الشخصية والهدف في الحياة ومشاركة الإله للبشر في شئونهم.
إن دخول موسى إلى القصة يُوظِف عن قصد فكرة الطفل المولود من أبوين متواضعين والذي يصبح (أو دون أن يدري) أميرًا، كانت هذه القصة في وقت كتابة سفر الخروج، معروفة في الشرق الأوسط والشرق الأدنى منذ ما يقرب من ألفي عام عن طريق أسطورة "سرجون الأكادي". سرجون (2334-2279 ق.م) هو مؤسس الإمبراطورية الأكادية، وهي أول إمبراطورية متعددة القوميات في العالم.
تروي أسطورته الشهيرة، التي استفاد منها كثيرًا في حياته لتحقيق أهدافه، كيف أن أمه كانت كاهنة "وضعتني في سلة من القش وأحكمت غطائي بالقار/ وألقتني في النهر الذي ارتفع فوقي. حملني النهر إلى أككي، ساقي الماء، الذي أخذني وربّاني كأبنه. عينني أككي/ ساقي الماء بستانيًا له" (بريتشارد، 85-86). يكبر سرجون ليطيح بالملك ويوحد منطقة بلاد ما بين النهرين تحت حكمه.
يذكر الباحث بول كريواتشيك، - الذي يكتب عن قصة سرجون -، مهرجان بابل الدولي عام1990م الذي احتفل فيه صدام حسين بعيد ميلاده. كتب كريواتشيك:
"وصلت الاحتفالات إلى ذروتها عندما نُقلت مقصورة خشبية على عجلات وسجدت أمامها حشود كبيرة ترتدي الأزياء السومرية والأكادية والبابلية والآشورية القديمة. فُتحت الأبواب لتكشف عن شجرة نخيل طارت منها ثلاثة وخمسون حمامة بيضاء في السماء، ومن تحتها جاء صدام الطفل الرضيع، الذي كان مستلقيًا في سلة، وطاف في مجرى مائي يحده المستنقعات. انبهر مراسل مجلة تايم بشكل خاص بموضوع الطفل الرضيع في السلة، ووصفه بأنه "إعادة لموسى"، ولكن لماذا بحق السماء يريد صدام حسين أن يقارن نفسه بزعيم اليهود؟ لم يفهم الصحفي المغزى، حيث كانت الفكرة من اختراع بلاد ما بين النهرين قبل وقت طويل من أن يأخذها بني إسرائيل ويطبقوها على موسى. كان الطاغية العراقي يلمح إلى سابقة أقدم بكثير، وبالنسبة له، أكثر عظمة بكثير، فهو يربط نفسه بسرجون. (112)"
أراد سفر الخروج أيضًا أن يربط بطله بسرجون: بطل حقيقي ينهض من بدايات مشؤومة ليبلغ العظمة. يشير أولئك الذين يعتقدون أن قصة الخروج هي أسطورة ثقافية إلى بدايات موسى، بجانب العديد من الجوانب الأخرى للقصة، لإثبات ادعائهم. يقبل باحثون آخرون، مثل: (روزالي ديفيد أو سوزان وايز باور)، قصة الخروج بصفتها تاريخ حقيقي، وينسبون إلى شخصيات القصة معرفتهم بأسطورة سرجون التي نقلها مؤلف سفر الخروج بأمانة. كتبت باور:
"كانت قصة ولادة سرجون بمنزلة خَتْم الاختيار، ودليل على ألوهيته، ولا شكّ في أن أم الطفل العبرانيّ عرفتها واستفادت منها في محاولة يائسة (وناجحة) لتضع طفلها في خطّ المختارين الإلهيّين. (235-236)"
يمكن تفسير حقيقة انعدام سجلات للخروج وعدم وجود أدلة أثرية تدعمه بالنسبة لهؤلاء العلماء، بأن الحرج الذي كان سيسببه رحيل بني إسرائيل لفرعون حال دون وجود أدلة علي الخروج. كتب باور:
"كان خروج بني إسرائيل بمنزلة تحدي مستفز موجه ليس فقط إلى قوة الفرعون وبلاطه بل إلى قوة الآلهة المصرية نفسها. كانت الأوبئة مصممة لإظهار عجز الآلهة المصرية. تحوّل النيل، مجرى دَم أوزيريس وشريان الحياة في مصر، إلى دم وأصبح كريهًا ومسمومًا؛ وظهرت الضفادع المقدسة لأوزوريس، بأعداد كبيرة جدًا لدرجة أنها تحولت إلى وباء؛ وحَجَبَ الظلام قرص الشمس. أصبح كل من رع وأتون عاجزين. هذه ليست أنواع الأحداث التي تظهر في النقوش الاحتفالية لأي فرعون. (236)"
الخروج بصفته نظرية تاريخية
هناك تفسير أبسط، بالرغم من كل هذا، وهو أن الأحداث الموصوفة في سفر الخروج لم تحدث - أو على الأقل، ليس كما وُصفت - ولذلك لم تُكتب أي نقوش تتعلق بها، حيث اشتهر المصريون بحفظهم للسجلات، ومع ذلك لم يعثر على أي سجلات تشير إلى رحيل شريحة من سكان الأرض التي بلغ عددها، وفقًا لسفر الخروج، "ستمائة ألف رجل راجلين بالإضافة إلى النساء والأطفال" (١٢: ٣٧) أو كما ورد في سفر الخروج (٣٨: ٢٦)، "فَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ رَعَمْسِيسَ إِلَى سُكُّوتَ، نَحْوَ سِتِّ مِئَةِ أَلْفِ مَاشٍ مِنَ الرِّجَالِ عَدَا الأَوْلاَدِ." ومرة أخرى دون احتساب النساء والأطفال.
كان سيوجد سجل ما لمثل هذه الحركة الضخمة لهذا العدد الهائل من السكان، حتى لو قرر المصريون أن إحراج آلهتهم وملكهم عارًا كبيرًا لا يمكن تدوينه، كان سيوجد سجل تاريخي لآثار مادية لبني إسرائيل في المنطقة. هناك معسكرات موسمية من العصر الحجري القديم في اسكتلندا ومناطق أخرى يعود تاريخها إلى حوالي 12000 سنة قبل الميلاد (مثل مزرعة هوبرن). كانت هذه المواقع موجودة وغير مستخدمة في أي وقت قريب من فترة الأربعين عام التي كان بني إسرائيل سيستفيدون منها في رحلتهم إلى أرض الميعاد.
إن حجج علماء المصريات مثل ديفيد روهل، بأن الأدلة على الخروج موجودة فعلًا، لا تحظ بقبول واسع من قبل الباحثين والمؤرخين وعلماء المصريات الآخرين. يزعم روهل أنه لا يمكن للمرء أن يجد أي دليل مادي أو أدبي على الخروج فقط لأن المرء يبحث في العصر الخطأ. وُضِعَ الخروج تقليديًا في عهد رمسيس الثاني (1279-1213 ق.م) ولكن يدعي روهل أن الأحداث وقعت في الواقع قبل ذلك بكثير في عهد الملك ديدوموس الأول (حوالي 1650 ق.م). ويزعم روهل أنه بفحص المرء الأدلة من ذلك الوقت، فإن الرواية التوراتية تتطابق مع التاريخ المصري.
تكمن المشكلة في نظرية روهل في أن الأدلة من عصر الدولة الوسطى (2040-1782 ق.م) عصر الاضمحلال الثاني (حوالي 1782- 1570 ق.م) لا تثبت في الواقع قصة الخروج. إن بردية إيبوير، التي يدّعي روهل أنها رواية مصرية عن الأوبئة العشرة، تعود إلى الدولة الوسطى، أي قبل فترة حكم دوديموس الأول بوقت طويل، وعلاوة على ذلك، فضلًا عن ذلك يتضح تمامًا أنها أدب مصري من النوع المعروف، وليس تاريخًا.
الساميون الذين يؤكد روهل أنهم عاشوا بأعداد كبيرة في أواريس لا يمكن تعريفهم بأنهم بني إسرائيل، في كل حالة يدعي فيها روهل مزاعمه التي تربط بين سفر الخروج والتاريخ المصري، فإنه إما يتجاهل التفاصيل التي تثبت خطأه أو يلوي عنق الأدلة لتتناسب مع نظريته، وبالرغم من مزاعم روهل، ومزاعم الآخرين الذين استغلوها، لا يوجد أي دليل أثري أو أدبي على قيادة موسى لبني إسرائيل من العبودية في مصر. المصدر الوحيد للقصة هو الرواية التوراتية.
نظرية الكاهن المصري
هناك رغمًا عن ذلك، سجل مصري لحدث يدّعي البعض أنه ألهم قصة الخروج في رواية "مانيتون السمنودي" عن الكاهن المصري وسرساف وقيادته لجماعة من المجذومين. فُقدت رواية مانيتون، ولكن يوسيفوس اقتبسها بإسهاب ومن بعده المؤرخ الروماني تاسيتُس، وفقًا ليوسيفوس، كان الملك أمنوفيس ملك مصر (الذي يساوي أمنحوتب الثالث، حوالي 1386-1353ق.م) يرغب في "رؤية الآلهة" ولكن العراف أخبره أنه لا يستطيع - إلا إذا طهر مصر من المجذومين.
قام الفرعون، بنفي المجذومين إلى مدينة أواريس، حيث اتحدوا تحت قيادة كاهن توحيدي اسمه وسرساف. تمرد وسرساف على حكم أمنوفيس وأسس عقيدة التوحيد، ودعا الهكسوس للعودة إلى مصر، أمَا في رواية تاسيتُس، يُدعى الملك المصري بوخوريس (الاسم اليوناني للملك "با كن رع نف"، حوالي 725-720 ق.م)، الذي نفى قطاعًا من شعبه المصابين بالجذام إلى الصحراء.
يبقى المنفيون في الصحراء "في ذهول من الحزن" إلى أن ينهض أحدهم، وهو موسى، ويقودهم إلى أرض أخرى. يمضي تاسيتُس ليقول كيف أن موسى علّم الشعب بعد ذلك إيمانًا جديدًا بإله واحد أسمى و"أعطاهم شكلًا جديدًا من أشكال العبادة، مخالفًا لكل ما يمارسه سائر البشر" (1).
لا توجد سجلات تؤيد هذه الرواية للأحداث، كما هو الحال بالنسبة لقصة الخروج، أيضًا لم يتسم عهد أمنحتب الثالث بأي تمرد من قبل المجذومين أو أي شخص آخر، ثم أن رواية تاسيتُس عن وصول موسى إلى السلطة في عهد "با كن رع نف" غير مدعومة أيضًا، إضافةً إلى ذلك، تذكر رواية مانيتون صراحةً أن وسرساف "دعا الهكسوس إلى مصر" حيث حكموا مدة ثلاثة عشر عامًا، ولكن الهكسوس طُردوا من مصر في حوالي عام 1570 ق.م على يد الملك أحمس ملك طيبة ولم تُشر السجلات إلى عودتهم أبدًا.
يعلق المؤرخ مارك فان دي ميروب على ذلك كاتبًا: "للباحثين آراء مختلفة في الأحداث التاريخية التي يستعيدها يوسيفوس بالضبط، ولكن يرى الكثيرون أن هناك ذكرى باقية لأخناتون وحكمه غير الشعبي في الحكاية" (210). اشتهر أخناتون بإدخال عقيدة التوحيد إلى مصر عن طريق عبادة الإله الواحد آتون وحظر عبادة جميع الآلهة الأخرى، ووفقًا للنظرية الأكثر شهرة التي شرحها فرويد، فإن قصة وسرساف هي في الواقع سرد لحكم إخناتون وأحد كهنته، موسى، الذي قام بالإصلاح.
يتعجب فرويد صراحًة من حقيقة أن أحدًا لم يلاحظ على ما يبدو أن قائد الخروج الذي يُزعم أنه عبراني كان يحمل اسمًا مصريًا، فيكتب: "كان من المتوقع أن يستنتج أحد المؤلفين الكثيرين الذين اعترفوا بأن موسى كان اسمًا مصريًا أن يستنتج أو في الأقل أن يفكر في إمكانية أن يكون حامل الاسم المصري هو نفسه مصريًا" (5-6). يقول فرويد كذلك:
"إنني أجرؤ الآن على استخلاص النتيجة التالية: إذا كان موسى مصريًا وإذا كان نقل إلى بني إسرائيل ديانته الخاصة، فهي ديانة أخناتون، عبادة آتون. (27)"
يري فرويد، أن موسى قُتل على يد قومه وأن ذكرى هذا الفعل خلقت ذنبًا جماعيًا غُرس في الديانة اليهودية وميزَ هذا النظام العقائدي وكذلك الأديان التوحيدية التي جاءت بعده، وبقدر ما قد تكون هذه النظرية مثيرة للاهتمام، فإنها مثلها مثل العديد من نظريات فرويد، تقوم على افتراض لم يثبته فرويد أبدًا ولكنه يستمر في بناء حجته على أي حال. كتبت سوزان وايز باور:
"ظلت النظرية القائلة بأن أخناتون درّب موسى على التوحيد ثم أطلقه في الصحراء تطفو على السطح؛ منذ قرن من الزمان على الأقل، ولا تزل هذه النظرية تظهر من حين لآخر في البرامج الخاصة بقناة (HISTORY) التلفزيونية وحفلات جمع التبرعات التي تنظمها شبكة (PBS)، بالرغم من عدم وجود أي أساس تاريخي لهذا على الإطلاق، في الواقع من الصعوبة بمكان أن يتوافق هذا مع أي من التواريخ الأكثر احترامًا للخروج، ويبدو أن هذه النظرية نشأت مع فرويد الذي لم يكن بالتأكيد باحثًا متحيز في رغبته في تفسير أصول التوحيد مع إنكاره لأكبر قدر ممكن من التفرد اليهودي. (237)"
يشير النص الأول الذي يقدم شخصية موسى بوضوح إلى أنه ابن أبوين عبرانيين، بالرغم من أن اسمه يوحي بالتأكيد بأصله المصري، وسواء قبلنا بسفر الخروج بصفته رواية موثوق بها أو أسطورة ثقافية، لا يمكن للمرء أن يغير النص ليتناسب مع نظرياته الشخصية، وهو ما فعله فرويد بالأساس.
لا يمكن للمرء، في الوقت نفسه، أن يدعي "تاريخًا معتبرًا" للخروج حين لا يوجد سجل تاريخي للحدث خارج مخطوطات سفر الخروج. تُنسب أحداث الخروج تقليديًا إلى عهد رمسيس الثاني استنادًا إلى المقطع من سفر الخروج (1: 11) حيث يذكر أن العبيد العبرانيين عملوا في مدينتي (بيت أتوم وبر-رمسيس (، وهما مدينتان عُرف أن رمسيس الثاني أمر ببنائهما.
كتب باور مع ذلك، أن "التاريخ المعتبر" للخروج هو 1446 ق.م استنادًا إلى "قراءة مباشرة لسفر الملوك الأول (6: 1) الذي يدعي أن 480 سنة مرت بين الخروج وبناء هيكل سليمان" (236)، ومما يزيد من تعقيد تأريخ الحدث هو أن سفر الخروج (7:7) يذكر أن موسى كان عمره 80 سنة عندما التقى لأول مرة بفرعون، ولكن تاريخ ميلاد موسى حسب اليهودية الحاخامية هو 1391ق.م مما يجعل تاريخ 1446 ق.م مستحيلًا، وهناك الكثير من الاقتراحات الأخرى لسنوات الميلاد المحتملة أيضًا والتي تجعل تاريخ 1446 ق.م للخروج غير مقبول.
الخروج بصفته أدب نارام
تنبع المشكلة في كل هذه التخمينات من محاولة قراءة الكتاب المقدس على أنه تاريخ مباشر بدلًا من كونه أدبًا، وتحديدًا نص كتابي، فالكتّاب القدماء لم يكونوا مهتمين بالوقائع كما هو الحال في عصرنا الحديث، لكنهم بالتأكيد كانوا مهتمين بالحقيقة، ويتجلى ذلك في النوع الأدبي القديم المعروف باسم "أدب نارو" في بلاد ما بين النهرين حيث تلعب شخصية، عادة ما تكون مشهورة، دورًا مهمًا في قصة لم تشارك فيها فعلًا.
تتعلق أفضل الأمثلة على "أدب نارو" بسرجون الأكادي وحفيده نارام-سين (2262-2224 ق.م). يُصوَّر نارام-سين في القصة الشهيرة "لعنة أكاد" على أنه يدمر معبد الإله إنليل حين لم يستجيب لدعائه. لا يوجد أي سجل لنارام-سين يفعل أي شيء من هذا القبيل في حين هناك الكثير من الأدلة على أنه كان ملكًا تقيًا يكرم إنليل والآلهة الأخرى، في هذه الحالة، كان من الممكن اختيار نارام-سين بصفته شخصية رئيسة بسبب اسمه الشهير، واستخدامه لنقل حقيقة حول عَلاقة البشر بالآلهة، وخاصةً موقف الملك اللائق تجاه الآلهة.
يروي سفر الخروج والروايات الآخري المتعلقة بموسى، بالطريقة نفسها، قصة التحرر الجسدي والروحي باستخدام شخصية موسى المحورية - وهي شخصية لم تكن معروفة من قبل في الأدب - والتي تمثل علاقة الإنسان بالله. يبذل كتّاب الروايات الكتابية جهدًا كبيرًا في تأصيل قصصهم في التاريخ، لإظهار عمل الله عن طريق أحداث حقيقية، بنفس الطريقة التي اختار بها مؤلفو "أدب نارو" في بلاد ما بين النهرين شخصيات تاريخية لنقل رسالتهم.
ليس من الضروري أن يكون الأدب والكتاب المقدس دقيقًا تاريخيًا للتعبير عن الحقيقة. إن الإصرار على أ، قصص مثل سفر الخروج على تاريخية يحرم القارئ من تجرِبة أوسع للنص. إن الادعاء بأن الكتاب يجب أن يكون صحيحًا تاريخيًا ليكون له معنى ينكر قوة القصة في نقل رسالتها.
موسى هو شخصية رمزية في القصة، وفي الوقت نفسه هو فردًا مستقلًا تمامًا، وبشخصية متميزة، حيث يتوسط بين الله والشعب، على مدار القصة، ولكنه ليس مقدسًا تمامًا ولا علمانيًا، فهو يقبل تفويضه من الله على مضض، ويسأل الله باستمرار عن سبب اختياره وما يفترض أن يفعله، ومع ذلك يحاول باستمرار تنفيذ مشيئة الله حتى يضرب الحجر ليخرج الماء بدلًا من أن يتكلم معه كما أمر الله (عدد 20: 1-12).
أمر الله موسى من قبل أن يضرب الصخرة ليحصل على الماء (خروج 17: 6) ولكن هذه المرة أمره أن يكلم الصخرة. أفعال موسى هنا، تتجاهل تعليمات الله، وتحرمه من دخول أرض كنعان الموعودة، ويُسمح له فقط برؤيتها من جبل نيبو، ولا يمكنه أن يقود شعبه بعد أن أخلّ بعلاقته مع الله.
إن هذه الحادثة مع الصخرة، وكما هو الحال مع بقية القصة المتعلقة بموسى، كانت ستنقل (ولا تزل تنقل) رسالة مهمة عن عَلاقة المؤمن بالله: فعلي المرء أن يثق بالإله بالرغم من معرفته المتصورة أو اعتماده على السوابق والتجارب. لا يهم في النهاية ما إذا كان شخص تاريخي اسمه موسى ضرب الصخرة أو تكلم معها فانفجر منها الماء؛ ما يهم هو حقيقة عَلاقة الفرد مع الله التي تنقلها هذه القصة وكيف يمكن للمرء أن يفهم بشكل أفضل مكانته في المخطط الإلهي.
موسى في القرآن الكريم
يظهر موسي أيضًا في القرآن الكريم، حيث ذُكر عدة مرات في صورة النبي الصالح الحكيم. يُنظر إلى موسى دائمًا في قصة الخروج القرآنية، على أنه عبد الله التقي المؤمن بالحكمة الإلهية، ولكن في سورة الكهف: الآيات من (60-82)، هناك قصة تُظهر كيف أنه حتى الرجل العظيم الصالح لا يزال لديه الكثير ليتعلمه من الله.
سأل أحد الحاضرين موسي ذات يوم، بعد أن ألقى موعظة مؤثرة بشكل خاص، عما إذا كان هناك على وجه الأرض من هو أعلم منه في طرق الله، فأجابه موسى بالنفي. يخبره الرب (الله) أنه سيكون هناك دائمًا من هو أعلم منه في أي شيء، خاصة فيما يتعلق الأمر بالذات الإلهية، فيسأل موسى الله أين يمكن أن يجد مثل هذا الرجل، فيعطيه الله إرشادات حول كيفية التصرف.
يجد موسى الخضر (ممثل الإله)، بعد إرشاد الله له، ويطلب منه أن يتبعه على أن "تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا"، فيجيبه الخضر: "لا علم لي إلا ما علمك الله". فيجيبه الخضر "إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا"، ثم ينصرف عنه، فيستعطفه موسى، فيقول له الخضر: "فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا" فيوافق موسى.
يصادف الخضر بينما يسافر مع موسي، سفنية على الشاطئ ويحدث ثقبًا في قاعها، فيعترض موسى صارخًا بأن أصحاب السفينة لن يتمكنوا من كسب رزقهم الآن، فيذكره الخضر كيف أخبره أنه لا يستطيع الصبر ويصرفه، لكن موسى يطلب منه الصفح ويعده بأنه لن يحكم أو يتكلم في أي شيء آخر.
يلتقيان بعد فترة وجيزة من حادثة السفينة، بشاب في الطريق فيقتله الخضر. يعترض موسى بشدة متسائلًا عن سبب قتل مثل هذا الشاب الوسيم فيذكره الخضر مرة أخرى بما قاله من قبل ويطلب منه الرحيل الآن على الفور. يعتذر موسى مرة أخرى فيغفر له الخضر ويسامحه ويسافران معًا.
يصلان إلى بلدة حيث يطلبان الطعام فيُرفض طلبهما، وفي طريق خروجهما من البلدة يمران بجدار حجري آيل للسُّقوط فيتوقف الخضر ويصلحه. يرتبك موسى مرة أخرى ويشكو إلى رفيقه أنه كان بإمكانه في الأقل أن يطلب أجرة على إصلاح الجدار حتى يتسنى لهما الحصول على شيء يأكلانه.
يخبر الخضر موسى وقتها، أنه أخلّ بالعقد المبرم بينهما للمرة الأخيرة، وعليهما الآن أن يفترقا، ولكنه يشرح أولًا ما فعله حيث: أفسد السفينة لأنه كان هناك ملك في البحر يستولي على كل مركب يخرج بالقوة ويستعبد طاقمه، ولو كان الناس الصالحون الذين كانوا يملكون السفينة خرجوا لكانوا قد لقوا نهاية سيئة. ثانيًا: قتل الشاب لأنه كان شريرًا وكان سيجلب ألمًا كبيرًا لوالديه ومجتمعه، وأن الله سيرزق الوالدين بابن آخر يجلب لهما وللآخرين الفرح بدلاً من الألم. ثالثًا: أعاد بناء الجدار لأنه كان هناك كنز مخبأ تحته كان من المفترض أن يرثه يتيمان، ولو انهار الجدار بعد ذلك لظهر لمن سيأخذه. ينتهي الخضر بقوله: "ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا" فيستوعب موسي الدرس.
إن موسى القرآني وكما هو الحال مع موسى الكتاب المقدس، شخصية متطورة تمامًا مع كل نِقَاط القوة والضعف الذي يتمتع بها أي شخص، ففي التوراة، يتم التأكيد على تواضع موسى، لكنه لا يزال لديه ما يكفي من الكبرياء ليثق في حكمه الخاص من خلال ضربه للصخرة بدلًا من الاستماع إلى الله، وفي القرآن الكريم يشك في إيمانه بنفسه وتصوراته وأحكامه الخاصة عن طريق عدم ثقته في رسول الله (الخضر). تعلمنا القصة الواردة في السورة الكهف أن لله غاية لا يمكن للبشر، حتى لو كان إنسانًا متدينًا وعالمًا مثل موسى، أن يفهمها.
استنتاجات
يُستشهد بموسى في جميع أنحاء العهد الجديد، أكثر من أي نبي أو شخصية أخرى من العهد القديم. يُنظر إلى موسى في الكتابات المسيحية على أنه واضع الشريعة ورجل الله. يظهر موسى على سبيل المثال فقط، بشكل بارز في القصة الشهيرة التي يرويها يسوع عن لعازر والغني في لوقا (16: 19-31).
يعيش في هذه القصة، رجلان في نفس المدينة أحدهم رجل فقير ولكنه تقي اسمه لعازر والآخر رجل غني (لم يذكر اسمه). يعاني لعازر يوميًا في حين يمتلك الرجل الغني كل ما يتمناه. يموت كلاهما في نفس اليوم ويستيقظ الرجل الغني في العالم السفلي ويرى لعازر مع النبي إبراهيم في الفردوس. يتوسل إلى النبي إبراهيم ليساعده ولكنه يتذكر أنه عاش على الأرض حياة الرَفَاهيَة بينما كان لعازر يعاني والآن انقلبت الأدوار.
يطلب الرجل الغني بعد ذلك، من النبي إبراهيم أن يرسل أحدًا لينذر عائلته، إذ لا يزال له خمس إخوة أحياء، ويخبرهم كيف يجب أن يعيشوا بشكل أفضل ليتجنبوا مصيره. يرد إبراهيم قائلًا: "عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ، لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ.". يحتج الرجل الغني قائلاً إنه إذا كان ينبغي أن يقوم أحد من بين الأموات ليحذر عائلته فإنهم بالتأكيد سيستمعون إليه، ولكن إبراهيم يقول: "إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ".
يُقدَّم موسى في هذه القصة، بصفته نموذج للحقيقة الإلهية، فإذا اتعظ الناس بمثال موسى وكلامه، فيمكنهم تجنب الانفصال عن الله في الحياة الآخرة. تؤكد القصة كيف أن تعاليم موسى تقدم كل ما يحتاج أي شخص إلى معرفته عن كيفية العيش حياة صالحة وكريمة والتمتع بالحياة الآخرة مع الله، وكيف أنه إذا كان المرء سيتجاهل موسى والأنبياء ويبرر خياراته في الحياة، فإنه من السهل أن يرفض شخصًا عائدًا من الموت؛ فكلاهما متساويان في رغبات الله في تقوى الإنسان وسلوكه.
ظهر موسى أيضًا في تجلي يسوع في إنجيل متى (17: 1-3)، ومرقس (9: 2-4)، ولوقا (9: 28-30) مع إيليا عندما أعلن الله أن يسوع هو ابنه الذي رضي عنه، في هذه المقاطع وغيرها في العهد الجديد، يُعتبر موسى مثالًا وممثلًا لمشيئة الله.
من غير المعروف ما إذا كان هناك قائد ديني في التاريخ اسمه موسى قاد شعبه وأسس فهمًا توحيديًا للذات الإلهية. ستحدد معتقدات الفرد ما إذا كان يقبل بتاريخية موسى أو يعتبره شخصية أسطورية أكثر من أي دليل تاريخي - أو عدم وجوده - على الإطلاق، وفي كلتا الحالتين، فإن شخصية موسى ألقت بظلالها عبر تاريخ العالم.
إن التوحيد الذي يُنسب إليه الفضل في تقديمه طوره حاخامات الديانة اليهودية والذي بدوره أثّر على المناخ الذي تمكنت فيه المسيحية من الازدهار، مما أدى بعد ذلك إلى ظهور الإسلام. تدّعي جميع الديانات التوحيدية الرئيسة الثلاث في العالم اليوم أن موسى هو من أتباعها، ولا يزال موسى يمثل نموذجًا لعلاقة الإنسان بالله بالنسبة لأتباع العديد من الأديان حول العالم.